يستذكر الوسط الأدبي الشاعر يوسف الخال (1916-1987) السوري الأصل واللبناني الانتماء، بمناسبة انقضاء ثلاثين عاماً على وفاته. وفي الاستذكار نفع لمن لا يزال ينعم بفضائل الكتابة (الشعرية) وفضائها الرحب، من دون أن يدري أنّ ليوسف الخال يداً في تأسيس هذا الفضاء وتسويغ الأساليب الشعرية الجديدة بل النجاح في تغليبها على ما عداها من الأساليب القديمة. ولكن، قبل المضيّ في تبيان ذلك الفضل المخصص لصاحب الذكرى، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الشاعر الخال قُيّض له أن يخوض تجربة حياتية بالغة الثراء، سواء على الصعيد الروحي، والأسلوبي الشعري، والفنّي - الجمالي الآن نفسه. وهذا ربما خوّله أن يكون رائداً من روّاد تجديد الشعر العربي، في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم، ورأس حربة للتيّار الشعري الجديد الذي أفلح في إرساء الأساليب الشعرية الجديدة، من مثل «الشعر الحرّ» و «قصيدة النثر» (أو القصيدة بالنثر)، وذلك عبر مجلّة «شعر» التي تولّى إدارتها (يوسف الخال) من عام 1957 وحتى عام 1970. وكان قد انضمّ إلى رحاب المجلّة وأودع فيها تجاربه الشعرية والنقدية، العديد من الشعراء، أمثال أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، عصام محفوظ، فؤاد رفقة، رياض نجيب الريّس، بدر شاكر السياب، أدونيس، سميح القاسم، محمود درويش، محمد الماغوط، وغيرهم من الشعراء العرب والنقّاد والفلاسفة وكتّاب المسرح والقصّة والروائيين. ولو تتبّعنا مسار الشاعر، عبر أعماله الشعرية العديدة، من مجموعته الأولى «سفر» (بلا تاريخ)، تبعتها «سلماي» (1937)، و «الحرية» (1944)، تلتها «البئر المهجورة» (1958) ومسرحية «هيروديا» (1958) الشعرية، ومن ثمّ «الحداثة الشعرية «(1978)، وفي آخر مطافه الشعري صدر له كتابان هما: «رسائل دون كيشوت» (1979) و «ولادة تانية» (1981). ولو عددنا الترجمات التي أنجزها الشاعر يوسف الخال، من الانكليزية إلى العربية، والتي تندرج في باب «الخلق الثاني... والأدب - الأم»، على حدّ قول الفيلسوف كمال يوسف الحاج، وتُضاف إلى خبراته الكتابية ومعارفه التي خوّلته المشاركة في ترجمة الكتاب المقدّس إلى اللغة العربية في شراكة مع الجماعة اللوثرية البروتستانتية التي انتمى إليها. ولكنّ السؤال الذي ينبغي طرحه لدى استعادتنا محطّات باتت معروفة في تاريخ هذه الشخصية الرائدة في عالم الشعر العربي الحديث والمعاصر، في الذكرى الثلاثين لوفاة مؤسس مجلة شعر وندوة «الخميس» الشعرية: ما الذي جعل يوسف الخال شخصية أدبية راسخة في التراث الشعري العربي الحديث والمعاصر: هل كانت إدارته مجلة «شعر» وتوجيه تيار الحداثة الوجهة الفعّالة؟ أم كانت إبداعيّته الشعرية التي بوأته هذه المكانة بين مجايليه؟ ولئن كنا، في محاولتنا الإجابة عن السؤال الآنف، لن نذهب بعيدا في الدرس والتمحيص، ما دام المجال غير متاح هنا، فإننا سوف نسعى إلى تبيّن بعض السمات الدالّة على أحد هذين الوجهين. أطياف مجلة «شعر» في دراسة لنا سابقة (عقيدة الحداثة، السفير العدد 10622-2007) بينّا كيف أنّ يوسف الخال أمكن له أن يدير عمل كوكبة من الشعراء الذائعي الصيت، من أمثال أدونيس وأنسي الحاج، وشوقي ابي شقرا، ممن كانوا في عداد هيئة التحرير، ويحرص على تلوين انتماءات الشعراء، أصحاب النصوص، في سبيل أن يتّسع طيف المجلّة وإبداعاتها ليشمل العالم العربي كله، ويتجاوز إطارها البيروتي المحض. وهذا ما يتّضح لقارىء أسماء المشاركين في أعداد المجلة كلّها وتوزّعهم على المحاور والأعداد توزّعاً يأخذ في الاعتبار مكانة كل منهم في بلده (العربي) وتمايزه الأسلوبي والمعنوي، ومدى رجحان التجديد في كتابته، ومقدار رسوخ قدمه في اتّجاه فلسفي (حديث) أو حمله قضية فكرية أو وطنية (محمود درويش، على سبيل المثال). بيد أنّ تنويع أصوات الإبداع في المجلة لم يكن كافياً وحده لتسييد الحداثة، برأي مديرها يوسف الخال، إنما كان ينبغي أن يرسّخ التجديد أو التحديث، في وجدان الجمهور العربي العريض، ونخبه، فكراً نقديّاً وفلسفياً، يسعى إلى الإحاطة بالحركة الأدبية الحديثة، ويمدّها بكلّ المسوّغات الممكنة التي تتيحها الفلسفات، قديمها وحديثها، وبلغة مبسّطة قدر الإمكان، على نحو ما أُعطي لكلّ من رينيه حبشي وأنطون غطّاس كرم، وخزامى صبري، ونذير عظمة، وأحمد مكّي، وغازي براكس، وغيرهم أن يؤدّوه أيضاً. وبهذا المعنى شاء الشاعر يوسف الخال، مدير مجلة «شعر» لتكون منارة يُهتدى بها للتجديد في الكتابة الشعرية والإبداع الأدبي والفني بصورة عامة. ولئن كان مسعى مجلة «شعر» غير مخالف مساعي المجلات الأدبية الأخرى الصادرة في بيروت، شأن مجلة «الآداب» و «الأديب» و «حوار» و «مواقف» في ما بعد، فإنه تميّز عنها بالإصرار على بثّ «عقيدة الحداثة» مطعّمة ببُعد عالمي – غربيّ على الأرجح – وبانفتاح على الثقافات الشرقية الغريبة. ولكن أين شعرُ يوسف الخال من الحداثة التي كرّس لها حياته وصِلاته وميله الفنّي؟ للإجابة نقول إنّ مسار يوسف الخال الشعري، يكاد لا يحيد قيد أنملة عن سمتي الحرية والتجديد الذي أعلن النفير لأجلهما، فمنذ كتابه الأول «سفر» الذي أصدره في عمر مبكر من شبابه، وإلى مجموعته الشعرية الأولى «سلماي» التي أصدرها وهو في الواحد والعشرين من عمره (1937)، فإلى كتابه الثاني «الحرية» (1944)، جعل الشاعر يمعن في تطويع لغته الشعرية، في تنقيتها، عبارة عبارة، نغمة نغمة، وإن تكن منظومة، في البدء، على البحور الخليلية الخفيفة (الرمل، والبسيط، ومجزوء البسيط). حتّى أطلق العنان لآلية التحديث في النظم، وما عدنا نرى، في «البئر المهجورة «سوى قصائد متحررة، على نحو مطّرد، من ثقل الوزن لحساب الموسيقى الإيقاعية، ومن أفقية البيت التقليدية ذات الوقع التكراري، إلى سطر شعريّ حافل بالتوازنات والمتوازيات في صلب المقطع الشعري، الأقرب ما يكون إلى المشهد الشعريّ المندرج في تجربة وجدانية حارّة ومقننة، في الآن نفسه، ترفدها رؤية بل رؤيا شعرية، هي في الأصل نتاج ثقافة فلسفية ولاهوتية، لا يتردد أدونيس في وصفها (بمقدمة «قصائد مختارة « ليوسف الخال، ص14) بأنها «شخصانية الألوهة». أما الفصل الأخير من مساره الشعري، المتمثّل بكتابيه «رسائل دون كيشوت» و «ولادة تانية»، فيشكّل برأينا نقطة الذروة التي بلغها الشاعر في اندفاعته التجديدية، بحيث اصطدم بجدار اللغة فراح يخاطب دون كيشوت المكنّي به عن ذاته قائلاً: «إنّ «لغتك المكتوبة أكلها الوقت، والمحكية عالة عليك «(ص88). ولعلّه بذلك، أغلق دائرة التجديد والإبداع، وذاق مرارة الانغلاق القصوى، نظير ما عاناه ملارميه في ريادته تجديد اللغة الشعرية الفرنسية. أو لعلّه أضاء للشعراء اللاحقين به شعلة الأوليمب التي لن تنطفىء جذوتها إلى اليوم.