لقانون الاستفتاء العام الذي أقره البرلمان الإسرائيلي رسالة مزدوجة. الأولى، نحو الداخل وبالذات الجمعية اليهودية، والثانية، نحو المحيط العربي والعالم. ضمن الرسالة الأولى، قصد اليمين المتنفّذ في إسرائيل في مستوى الفكر والسياسة، أن يواصل اندفاعته نحو تكريس سعيه إلى خطف الدولة ومؤسساتها إلى داخل أيديولوجيته، أو الاستحواذ على صنع القرار السياسي بثمن الالتفاف على المؤسسات - وهنا البرلمان - أو تحجيمها. وضمن الرسالة الثانية، يقصد هذا اليمين أن يعزز مواقعه التفاوضية مع المحيط العربي بتفصيل فرص التسوية (طابع وطبيعة الكيان الفلسطيني الذي قد ينشأ عن أي تسوية مستقبلاً) على مقاسات هذا اليمين ورؤاه. إن إقرار القانون المشار إليه يشكّل سابقة دستورية في تاريخ إسرائيل لأنه يُجيز للمرة الأولى إخراج صلاحيات الحسم واتخاذ القرار من حدود البرلمان ومنحها ل «الشعب». لقد أضاف اليمين في نجاحه تمرير القانون في تطوير آلية ديموقراطية - الاستفتاء العام - لتكريس رؤى وتوجهات ومشاريع مناهضة للديموقراطية. وهو نهج يميني عام لا سيما عند اليمين القومي المتشدد في الدول القطرية الأوروبية في النصف الأول للقرن الماضي. والخاص في إسرائيل إن المزاج العام في العقد الأخير هو مزاج يميني بامتياز تطور على وقع ضغط التهديدات الخارجية أو ما اعتُبر في إسرائيل كذلك. وقد لاحظنا أنه كلما تكشفت أمام المجتمع الإسرائيلي حاجته وحاجة المنطقة إلى التسوية تعمّق التوجهات اليمينية وترسخت في الخطاب وفي السياسة وعلى الأرض. ولا يُخفي منظرون إسرائيليون قلقهم من إمكانية أن تتدحرج كل التجربة الإسرائيلية من نظام تمييز عنصري مقنّع إلى نظام عنصري معلن. لم يكن مفاجئاً مضمون ردود الفعل العربية المتتالية التي رصدناها. وقد اعتبرت القانون الجديد إثباتاً على أن إسرائيل غير معنية بالسلام. وهي قراءة تبدو صحيحة في سطح الأحداث وضمن السجال بين إسرائيل والعرب. وهي كذلك تنمّ عن إدراك لما يقصده اليمين الإسرائيلي الذي عبّر في نهاية المطاف ليس عن وجهة نظره، بل بدا كأنه يربط نفسه بنفسه إلى صخرة رفض التسوية وإدارة الظهر لما عبّر عنه العرب في المبادرة العربية. فالقانون الجديد يعكس، كما أسلفنا، مزاجاً يمينياً عاماً لكنه لا ينفي وجود قناعات إسرائيلية متجذّرة بضرورة التسوية مع العالم العربي. وقد أراد اليمين أن يردّ داخلياً على هذه القناعات ويحدّ من إمكانية تحولها إلى «حرارة» على خط التفاوض. ولأن هذه القناعات أخذت تسري في عمق المجتمع المدني وفي جيولوجيا الوجود الإسرائيلي بما فيه أوساط حسبت على اليمين، فإنها خلقت ما يشبه حالة جزع مكبوتة من إمكانية تطورها إلى تحرك على الأرض يُفضي في نهاية المطاف إلى سقوط أسوار «الحصن» الإسرائيلي النفسية التي حالت حتى الآن من التقدم على مسار التفاوض نحو ما يبدو للجميع «منطقياً» لا سيما الانسحاب من الأرض العربية المحتلة. سندّعي أن معرفة الإسرائيليين وفي رأسهم اليمين مسبقاً لمآل المفاوضات لو اندفعت هو بالذات ما ينتج هذا التطور وسواه الذي يشكّل محاولات فرملة من ناحية اليمين الإسرائيلي لئلا «تنزلق» التجربة الإسرائيلية نحو التطبيع مع الجوار العربي. لأن في مثل هذا التطور ما يشي بخوف هذا اليمين من نسف روايته للصراع واضطراره إلى «حدوده الطبيعية» ضمن دولة على مساحة جغرافية أضيق. وهنا، أيضاً، يُمكننا أن نعتبر أن سيناريو كهذا يدفع منسوب القلق الوجودي اليهودي الجمعي إلى ذراه! فقد أشارت الأبحاث الإسرائيلية إلى حقيقة أن انسحاباً في الجغرافيا يُثير القلق في الديموغرافيا. من هنا فإننا نفهم قانون الاستفتاء إشارة إلى ما يُمكن أن يحصل للفلسطينيين داخل إسرائيل. فآلية الاستفتاء التي أقرّت ضمن قانون، تستهدف في ما تستهدفه الحيلولة دون إسهام المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل في أي عملية سياسية مستقبلية تقصد إحقاق التسوية مع الجوار العربي. بل أمكننا أن نذهب أبعد من ذلك فنعتبر القانون مؤشراً على أن الغالبية اليهودية ساعية إلى إقصائهم عن العملية السياسية بأسرها قبل التسوية وبخاصة بعدها! وهو يقع في المكامن الإسرائيلية التي أنتجت الحديث عن يهودية الدولة وضرورة اعتراف العرب بها كذلك. يُدرك اليمين الإسرائيلي أنه لا يستطيع تأجيل المفاوضات إلى ما لا نهاية وأن الضغوط بهذا الشأن ستتوالى وتتضاعف مع مرور الوقت في المدى المنظور، من واقع الأمور على الأرض ومن السياسة الدولية، ومن هنا فإنه انبرى يناور لإبعاد نتائج هذه المفاوضات قدر الإمكان من ناحيته. وهنا فإن القانون يشكل سلاسل أوثق بها اليمين أقدامه وأقدام المجتمع اليهودي بأسره لتأخير أي تقدم قد يحصل على مسار التفاوض. وهو غير آبه بحقيقة أن خطواته المتتالية تجعل من إسرائيل اليوم جنوب أفريقيا الأمس. مهما يكن من أمر تفسيرنا لخطوات اليمين الإسرائيلي لا أوصي بالذهاب جهة ما يصدر حتى هذه اللحظة من العواصم العربية. فحتى لو استطاع اليمين الإسرائيلي أن يجعل من إسرائيل حصناً عنصرياً - وهو قادر بخاصة أن تيارات فكرية وفلسفية في التجربة الإسرائيلية تدفع بهذا الاتجاه - فإن هذا الحصن لن يكون آمناً أمام المبادرة العربية أو أي تحرك عربي مسنود بها. قد يكون اليمين الإسرائيلي وصل إلى ذروة هيمنته الآن في الداخل الإسرائيلي - حالة مشابهة نوعاً ما لما حصل لهذا اليمين عشية مؤتمر مدريد لمن يذكر - ووصلت إسرائيل في موازاة ذلك إلى ذروة ضعفها في الرأي العام العالمي. وهي فرصة مناسبة أمام الجوار العربي كي يجدد مبادرة السلام ويستأنف العمل عليها وبها!