مهما صفت الحياة للمرء، ومهما زانت الأمور من حوله، لا بد وأن يصعق سريعاً ويصحو من صعقته ليدرك أنه يعيش وسط أدغال غابة كبيرة، يأكل القوي فيها الضعيف، ويستولي فيها الكبير على الصغير، وهذا هو قانون الغاب الذي لا يختلف عليه اثنان. ففي عالم اليوم، إن لم يحمك رب العالمين من جور الجائرين، وظلم الظالمين، فلن يحميك أحد، وإن لم يحفظك الله من مصائب الدنيا وأنت غافل، فلن يحفظك أحد. كثير من الناس غدت كوحوش الغاب، تنهش بعضها بعضاً مثل الضباع، وتقطع أوصال بعضها بعضاً مثل التماسيح والذئاب، وتتكالب على الضعيف لصالح القوي. في هذه الدنيا، لا تستغرب أن ينقلب عليك صديق أو موظف ظللت تستأمنه على مالك وأسرارك... بل ومصالحك، ولا تتفاجأ أن ينقلب عليك من كنت توكله ليحامي لصالحك، فيصبح بقدرة قادر، يحامي لصالح خصمك. أناس كثر، نسوا معنى الأخلاق، ولم يبق أمام أعينهم سوى المادة، وأناس كثر تنصلوا من إنسانيتهم، ليصبحوا شرسين، لا يشبعهم إلا أكل حقوق الناس بالباطل، ولا يملأ أعينهم إلا التراب، وأناس كثر يدّعون العفة والعفاف، وهم عكس ذلك، وآخرون يبدون للناس بأنهم مثال للعدل والإنصاف، وهم في الحقيقة يندرجون في زمرة الظلمة ولا يعرفون من العدل إلا اسمه، في ذممهم الكثير من حقوق المظلومين والمغبونين. كثير من الناس، أصبح مقياس محبتهم ومعزتهم للآخرين، هو المستوى المادي، وأصبح مقياس احترامهم لهم، هو قوتهم وسلطانهم، فإن كنت تريد أن يحبك هؤلاء، فلا بد أن يكون جيبك عامراً، وإلا ستكون مكروهاً مذموماً، وإن كنت تريد أن يحترموك، فلا بد لك من أنياب تكشر عنها لتذكرهم بأنك من الطيور الجارحة، أو سيأكلونك حياً، ويرمون بقيتك للضباع. في هذا الزمن، تتحجر القلوب لتنسي هؤلاء الرحمة، وتضمر العقول لكي لا يفكر هؤلاء إلا في المال والجاه والسلطان، فيندر من يحن قلبه على المساكين والضعفاء، ويندر من يفكر عقله بأسمى مما في جيبه وجيوب الآخرين وبأكثر من حجم عضلاته، وحجم عضلات الآخرين. ساءت الأخلاق، وهبطت المثل، وتردت الأحوال، واسودّت الصور وأصبح ما تبقى من كرام الناس مثل الثكالى، ينعون أنفسهم وينعون من رحل عنهم ممن كانوا يشعرون بهم، وممن كانوا يخافون ملك الملوك وسلطان السلاطين الملك القدوس الذي يرى كل فعل ويسمع كل شيء يقال، بل ويعلم سبحانه خائنة الأعين وما تخفي الصدور. نسأل الله أن يرينا في كل خائن لأمانته وكل ظالم وجائر يوماً عبوساً قمطريراً، وأن يعيد لنا زمن التراحم والرحمة والخير والرأفة والعزة والكرامة والأمانة، وأن يطيل لنا في عمر خادم الحرمين الشريفين، وأن يسدد خطاه لخير البلاد والعباد.