إن أي مفاوضات لن تنجح ما لم تجر بين طرفين متكافئين. متكافآن بميزان القوى الذي يسند كلاً منهما، وبشروط التفاوض ومرجعيته، وبإقرار مسبق بأن الأطراف المشاركة لن تواصل فرض حلولها الخاصة على الارض أثناء اجراء هذه المفاوضات. والمفاوضات الناجحة تتطلب استعداداً سياسياً وذهنياً لانجاحها من الاطراف المشاركة. وبتطبيق هذه المعايير على المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية التي انطلقت يوم الثاني من ايلول (سبتمبر) الماضي، فإن كل المؤشرات تشير الى الفشل الحتمي لهذه المفاوضات. فقد جرت بين طرفين غير متكافئين، ومن منطلق غير متكافئ. طرف يحتل الآخر، ويتحكم بموارد حياته وحرية حركته ويستند الى دعم او صمت رسمي دولي على ممارساته وخروقاته المتواصلة للقانون الدولي. والمفاوضات انطلقت في ظل غموض مطلق للمرجعية، وفي الواقع بحسب الشروط الاسرائيلية التي اصرت على «عدم وجود شروط للتفاوض» أي ان القانون والقرارات الدولية التي تنص على انهاء الاحتلال واقامة دولة حقيقية ذات سيادة ليست مرجعية ملزمة. والمفاوضات بدأت في ظل استمرار الاستيطان الاسرائيلي وتوسعه ليس فقط في القدس بل وفي سائر الاراضي المحتلة (الذي لم يمثل التجميد الجزئي الا اكذوبة لإخفائه)، اي في ظل استمرار الجانب الاسرائيلي في فرض امره الواقع على الارض، وبالتالي تحول المفاوضات الى غطاء لهذا النشاط الاسرائيلي، الذي يستطيع التذرع بوجود المفاوضات لصد اي ضغط او احتجاج دولي على نشاطه الاستيطاني وعملية التطهير العرقي التي يقوم بها في القدس. والواهم فقط من يعتقد ان لدى حكومة نتانياهو بتركيبتها وائتلافها ونهجها الليكودي المعلن اي استعداد سياسي وذهني لانجاح المفاوضات. نحن اذاً امام فشل محتوم. وأولى تباشير الفشل ظهرت في اواخر ايلول عندما حان موعد تجديد «التجميد» المزعوم للاستيطان. ان العمل الديبلوماسي يمكن ايضاً ان يكون مقاوماً وجزءاً من المقاومة الشعبية. المقاومة المستندة الى حق الشعوب في الحرية والكرامة والحياة، والمستندة الى القانون الدولي والقانون الانساني الدولي، والى القرارات الدولية والقضائية العديدة التي أكدت عدم شرعية الاحتلال، كما أكدت على حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته المستقلة الكاملة السيادة بموجب قرار التقسيم الصادر عام 1947، والذي استندت اسرائيل اليه لاعلان نشوئها واستقلالها. ولا يحق لأحد منع الشعب الفلسطيني من استخدام هذه القرارات لحماية مصيره ولخلق تكافؤ نسبي في مواجهة الجانب الاسرائيلي. ومن هذا المنطلق فإن السبيل الأخير لمنظمة التحرير الفلسطينية وكافة القوى الفلسطينية لانقاذ حل الدولتين – ان كان ما زال ممكناً انقاذه، هو تبني الاعلان المستقل من الجانب الفلسطيني عن اقامة الدولة الفلسطينية على كامل الاراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدسالشرقية عاصمة لها، والتوجه الفوري الى كل الدول العربية ودول العالم وحكوماته وهيئاته الرسمية لمطالبتها للاعتراف بهذه الدولة ك «كيان رسمي مستقل كامل السيادة اسوة بكافة الدول الاخرى». وبعد ذلك التوجه الجماعي بهذا القرار الى الجمعية العمومية للأمم المتحدة، لاصدار اعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، ومطالبة اسرائيل بإزالة احتلالها عن كامل أراضيها وأجوائها وحدودها ومياهها الاقليمية. أما المفاوضات ان أجريت بعد ذلك فستكون مفاوضات لتطبيق هذا القرار والحق وليس للتفاوض على الحق نفسه كما جرى حتى الآن. ولنتذكر ان مصر والهند عندما تفاوضتا على استقلالهما عن بريطانيا لم تعطيا بريطانيا حق ترسيم حدودهما او حق التفاوض على تلك الحدود، والامر نفسه انطبق على الجزائر وغيرها. ان دولاً واطرافاً عديدة في العالم تنتظر هذه الفرصة لإعلان دعمها لاستقلال الشعب الفلسطيني بالملموس وفي شكل محدد، ويجب ان تكون في مقدمها الدول العربية وكل الدول الصديقة للشعب الفلسطيني. وهذه هي الفرصة لاختبار صحة الوعود الدولية وبخاصة الاميركية والاوروبية بدعم قيام دولة فلسطينية، فمن كان صادقاً في وعده، عليه الاعتراف بالدولة المستقلة وتأكيد شرعية النضال الفلسطيني لإزالة الاحتلال عنها. لم يعد هناك أي مجال للمماطلة وإضاعة الوقت، ومواصلة انتظار الفرج من حوار أميركي او دولي مع اسرائيل. ولكي تكون هذه المبادرة الديبلوماسية المقاومة فعالة فإنها يجب ان تترافق ايضاً مع اجراءات أخرى تأخذها الأطراف الفلسطينية والعربية ومنها: 1- اعلان منظمة التحرير الفلسطينية عن توقف السلطة الفلسطينية عن التنسيق الأمني مع الجانب الاسرائيلي ورفضها لمجمل فلسفة الأمن القائمة على ان الذين تحت الاحتلال مسؤولون عن تأمين الأمن للذين يحتلونهم، في حين يعجزون عن توفير الأمن لشعبهم المتعرض لبطش الاحتلال والمستوطنين. 2- مباشرة الدول العربية بإجراءات مقاطعة ضد اسرائيل، بما في ذلك وقف كل اشكال التطبيع معها، واعلان استعداد الدول العربية للانخراط في حال استمرار المواقف الاسرائيلية في حملة لفرض العقوبات عليها. 3- التوجه الجاد نحو استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، بما في ذلك انشاء حكومة وحدة وطنية توحد فوراً شطري الوطن الضفة وغزة، وتفعيل ما نصت عليه الوثيقة المصرية من إنشاء قيادة وطنية موحدة موقتة لحين التمكن من اجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني. 4- التوجه فوراً بحملة ديبلوماسية تشارك فيها كافة القوى والمؤسسات الفلسطينية لاقناع حكومات ومؤسسات العالم بالاعتراف الفعلي بالدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس. 5- ان يتخلى الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي عن مجمل فكرة تبادل الاراضي والتي استخدمت لتبرير التواجد الاستيطاني غير الشرعي ولتنظيم مخططات تطهير عرقية جديدة ضد ابناء الشعب الفلسطيني المقيمين في اراضي 1948. ان كل ما نطرحه ملموس وواقعي، ويندرج في اطار ما يتقبله العالم كله من أشكال المقاومة السلمية والشعبية. ولا بد لهذا العالم من ان يفهم انه ان ادار ظهره لهذه المحاولة الأخيرة لانقاذ فكرة الدولة المستقلة وخيار السلام على اساس دولتين، فإنه يكون قد ارسل رسالة الى الشعب الفلسطيني الذي يرى أراضيه تُلتهم يومياً تحت جرافات الاستيطان، بأن حل الدولتين لم يعد واقعياً ولا قائماً. ولن يترك العالم أمام الشعب الفلسطيني في هذه الحالة سوى خيار التخلي عن فكرة الدولة المستقلة والانخراط الشامل بكل مكوناته في نضال موحد ضد نظام «الابارتايد» والاستعباد العنصري الاسرائيلي، من أجل الحاق الهزيمة به واقامة دولة ديموقراطية واحدة يتعايش فيها الجميع بحقوق وواجبات متساوية. على مدى سبعة عشر عاماً منذ اتفاق اوسلو البائس حاولت اسرائيل ان تضعنا أمام خيار «اما حكم ذاتي هزيل في بانتوستانات ومعازل يعمل كوكيل أمني لاسرائيل ويسمى دولة أو استمرار الاحتلال والتوسع الاستيطاني». أما نحن فيجب ان نضعهم امام خيار «إما دولة مستقلة كاملة السيادة فوراً على جميع الاراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس او دولة ديموقراطية واحدة يتساوى فيها الجميع». ونحن نعرف ان ثمن الخيار الاخير سيكون غالياً، ونعرف ما سيعنيه من تكاليف نضال عنيد وطويل ضد «الابارتايد». ولكن الشعب الفلسطيني عُرف بطموحه للحرية والكرامة والعدالة، ولن يقبل ابناؤه ان يكونوا عبيداً للإحتلال. ومثلما فشلت أصناف الاضطهاد في كسر ارادة الفلسطينيين وتوثبهم الدائم لغد افضل لأبنائهم، فلن يطفئ عناد العنصرية وتكاسل العالم عن مواجهتها جذوة الامل في نفوسهم، والتي تتغذى يومياً بهذا التحول الرائع والمتعاظم لدى الشعوب على امتداد الكرة الأرضية لمصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية