كأنّ ثمة ما يتغيّر في ذائقة الشباب الإابداعية. إشاراتٌ كثيرةٌ وعلاماتٌ تدلّ على ذلك من المحيط الى الخليج، وبينهما مساحة أحلام وآلام وخيبات وانكسارات وتطلّع – على رغم هول الواقع – الى غد موعود بالفرح واليَنَاع وخضرة الأيام. لا تُقرأ تلك الإشارات في معجم تفسير أو كتاب وإنما في وجوه وعيون وأسئلة، وفي أكفّ مفتوحة ممتدّة لتمتشق كتاباً أو قلماً أو «حاسوباً» بحثاً عن معنى مختلف للحياة بعد أن بلغت موجة السهولة والاستهلاك حدّها الأقصى وأصابت المتلقّين بالتخمة ما ارتبط ظلماً باسم الشباب كأن يقال مثلاً «الأغنية الشبابية» توصيفاً لسيل الأغنيات السهلة التي راجت على مدى عقدين مضيا مخلفين وراءهما نوائب ومحناً وأزمات مستعصية. لقد أعاد قوس تلك الأزمات النارية المتفجرّة بين ماءين، طرحَ علامات الاستفهام الجوهرية والمصيرية. فبات كلّ شاب عربي يطرح على نفسه اليوم أسئلة الغد باحثاً عما يروي ظمأه الفكري والوجداني ويخفف قلقه الوجودي، لكنه لا يعثر على مياه شافية في المستنقعات الضحلة وفي نتاج السطحية والابتذال، لذا صار الشباب أكثر بحثاً عن الجوهري والعميق المحاكي جوهرَ تطلعاته وعمق مآزقه. لا أقول ما أقوله مغالاة أو محاباة أو مجاملة. كلّ التحولات في المجتمع والناس تبدأ من العود الأخضر الشاب، لأن اليابس متى أراد التحوّل انكسر! في مساءات الشعر والمشاعر المجنحة، وآخرها في عمّان بضيافة الملتقى الأدبي محتفياً بسنة على انطلاقته بدأب جماعة من الشعراء الشباب من خارج المشهد السائد أو المكرّس، بدأوا أربعة وباتوا الآن خمسين قبل أن يغربلهم الوقت كم توقع صائباً الروائي الياس فركوح، وتمنيتها متفائلاً غربلةً الى زيادة لا نقصان كماً ونوعاً. في تلك الامسية التي احتضنها محترف رمال ( بناء مدرسيٌ سابق حوله شغف الفنان عبدالعزيز أبو غزالة فسحة فن وأدب تتناغم فيها همهمة الريح في الحجارة العتيقة مع أنفاس الخشب وحفيف الكلمات تحت نظر قمر عمّان) كان الحضور الشاب هو القصيدة الأجمل التي ملأت المكان حماسة ونضارة وبشارة بأن الكلمة الطيبة يظل أصلها ثابت وفرعها في السماء وتظل الأكثر فعلاً وتفاعلاً، وأن لا خوف عليها مهما تبدّلت أدوات المعرفة أو «تكنلجت»! أهم ما يميّز شباب الملتقى الادبي الذين سخّروا تكنولوجيا التواصل المعاصرة في سبيل تلاقيهم وتفاعلهم، أنهم أكثر شغفاً وصدقاً وبراءةً من معظم السائد المحترف المتمرّس. إذ إن كثرة المراس والحرفة تدفع أحياناً الى نوع من فقدان الدهشة الاولى، ولعل لا شيء يحصّن الشاعر، بل المبدع عموماً، مثل احتفاظه بدهشة الطفولة وبراءاتها الخضراء. ليس مثل الاخضرار حافزاً للتبرعم والتفتّح والسفر في الأمداء عطراً لا يفنى ولا يبيد. ولئن كان شباب الملتقى يشكون تجاهلاً من «السائد» الثقافي والإعلامي، فإنهم يدركون ولا شك أن الجديد غالباً ما ينظر اليه بعين الحذر والريبة ومرّات تُشحذ السيوف لقطع «دابره»، لكنه متى تمسّك بالإيمان والصبر والأمل مستنداً الى فطرة الموهبة وخبرة التجربة وقبول التنوّع والاختلاف، فإنه لا ريب نابت «كما العشب بين مفاصل صخر»، متفتح مهما اشتدت العواصف والأنواء، ولا يظنن «الجديد» أن ثمة حضناً له مثل الحرية التي هي اولاً في الذات قبل أن تكون في الآخر، في الخاص قبل العام، في الفردي قبل الجماعي... حين يرفضك السائد الرسمي انما يمنحك برفضه حرية البراري الرحبة. لذا، نقول لشباب الملتقى الرائعين لن يفرح بكم الا من كان مثلكم، شاباً حراً طليقاً مع العلم أن شباب الحرية والقبول بالآخر وبالجديد المختلف ليس عمراً فحسب بل وعياً وكشفاً وسعياً الى الجديد المدهش الخلاب. من يوصد الباب بوجه النسيم الفتي فإنما يحكم بالتكلّس على نفسه لا على النسيم. كونوا نسيماً حيناً، ريحاً حيناً، لاعبوا ضفائر الاحلام واقتلعوا اشواك الدرب ولا مناص من تفتح حدائق الضوء في أكفكم. أصافحكم: صالح الدرّاس، أخلد نواس، مأمون السعدي، حسن الحلبي وبقية الاصدقاء، كنتم شعراء قصيدتي في امسية لا تُنسى...