بعد مضي 21 سنة على رحيله، يُطل الرئيس فرانسوا ميتران «متعدد الوجوه» وصاحب الشخصية المركّبة، على الفرنسيين بوجه مفاجئ لم يألفوه، هو وجه الرئيس العاشق المرهف والرقيق، من خلال الرسائل التي كتبها لعشيقته آن بينجو، السيدة التي ارتبط بها بعلاقة عاطفية عميقة وأنجب منها ابنته مازارين. وبعد عقود قبلت بينجو أن تعيش خلالها في الظل، بحكم الموقع الرسمي لعشيقها الرئيس، وبحكم كونه متزوجاً من امرأة أخرى وأباً لولدين، قررت الخروج إلى الضوء ونشر نحو 1200 رسالة تلقتها من ميتران، في كتاب يصدر الأسبوع المقبل عن دار «غاليمار» وعنوانه «رسائل إلى آن». وتُظهر هذه الرسائل التي تناقل الإعلام مقتطفات منها، عمق العلاقة التي ربطت بين بينجو وميتران ونبلها، واستمرت حتى وفاته عام 1995، وتكشف عن وجه جديد وخفي لهذا الرئيس الذي أحبه بعضهم في فرنسا بشكل مطلق وكرهه آخرون بالشكل ذاته. كان ميتران الذي حكم فرنسا على مدى ولايتين رئاسيتين (12 عاماً) صاحب شخصية لا تترك المجال للامبالاة، فإما أن يجذب بقوة أو ينفر بقوة، معروفاً بأوجه عدة، ليس أقلها وجه الحيوان السياسي الذي جعله أول يساري يتولى الرئاسة، ووجه الداهية والمثقف الواسع الاطلاع، ووجه المتذوق المقبل على الحياة والمشغوف بالنساء. وتأتي رسائله الآن لبينجو لتضفي عليه صفة العشيق الأديب الصادق، والذي يصوغ جمله بدقة وحساسية، تجعل منها ربما إحدى أجمل ما كتب من قصص عاطفية في الأدب الفرنسي وتنفض عنه صورة السياسي الذي خان زوجته وأسرته وأنجب ابنة غير شرعية أحاط وجودها بالكتمان على مدى عقود. عندما تعرّف ميتران إلى بينجو في الخمسينات كان عضواً في مجلس الشيوخ في ال46 من العمر، زوجته دانييل غوز ووالدَ مراهقين، جان كريستوف وجيلبير، وكانت آن في ربيعها ال19 ابنة أحد أصدقائه الصناعي بيار بينجو. لم يكن هناك ما يجمع بينهما سوى ولعهما المشترك بالأدب الذي شكل ذريعة لأولى الرسائل التي وجهها ميتران إلى آن، يبلغها فيها عن عثوره على نسخة نادرة من كتاب تناقشا في شأنه وتحولت تدريجاً إلى رسائل عاطفية. في أولى رسائله، يبدو ميتران معجباً خجولاً، يخاطب بينجو بعبارة «آنسة»، لكن جمله القصيرة مفعمة بالمشاعر والحنان، ومع توطد العلاقة عام 1964 تطغى على الرسائل لهجة حميمة لا يغيب عنها الطابع السري لعلاقتهما، إذ إنه لم يكن يرغب بالانفصال عن زوجته. يقول في إحدى رسائله إنه لحظة لقائه بينجو، أدرك أنه سيبدأ رحلة طويلة معها. كان يشكو أحياناً في رسائله من اضطراره للانقطاع عنها، ويقول إنه «حزين جداً لأن يوماً واحداً سخيف من دونها»، وفي بعض الأحيان يمتعض من مشاغله السياسية التي تفرِّق بينهما. لكن من وجهة نظره، فإن إبقاء بينجو في الظل نتيجة رفضه الطلاق، يوفر عليها عناء الظهور إلى جانبه خلال المناسبات العلنية المضنية والسخيفة، خصوصاً عند توليه الرئاسة، ما يؤكد بوضوح أنه لم يردها في موقع السيدة الأولى، إنما أرادها امرأته وحبيبته ووالدة مازارين التي احتلت بدورها مكانة بارزة في قلبه. وعند ولادة مازارين عام 1974 كتب ميتران لها رسالة يعبر فيها عن مدى تأثره لوجودها على هذه الأرض، وللرعشة التي يشعر بها لدى كتابته اسمها للمرة الأولى. بقيت آن بينجو وابنتها مازارين محط إشاعات وأقاويل كان يتم تداولها في عدد من الأوساط الضيقة حتى عام 1994، حين نشرت مجلة «باري ماتش» على غلافها صورة لها مرفقة بعبارة «الابنة غير الشرعية لميتران». وتعرّف الفرنسيون لاحقاً إلى بينجو الأم خلال مراسم دفن ميتران، وكان وجَّه إليها قبل وفاته رسالة أخيرة يقول فيها إن سعادته هي «التفكير فيها، أن يحبها، وإنها كانت فرصة حياته».