حينما أصدر مجلس الأمن الدولي بيانه الرئاسي الأخير عن الشرق الأوسط لم يعطه الإعلام العربي مكاناً متقدماً. ربما لأن البيانات الرئاسية من هذا النوع غير ملزمة بينما قرارات مجلس الأمن ملزمة لجميع الدول الأعضاء بحكم ميثاق الأممالمتحدة. وفي ذلك البيان الرئاسي الأخير كان طبيعياً التأكيد على «ما يكتسبه تحقيق السلام الشامل في الشرق الأوسط من طابع مستعجل، فثمة حاجة إلى بذل مساع ديبلوماسية حثيثة من أجل بلوغ الهدف الذي حدده المجتمع الدولي وهو تحقيق سلام دائم في المنطقة بناء على التزام راسخ بالاعتراف المتبادل ونبذ العنف والتحريض والإرهاب والحل القائم على وجود دولتين، وذلك انطلاقاً من الاتفاقات والالتزامات السابقة». في هذا السياق أشار المجلس في بيانه إلى قراراته الأساسية السابقة بشأن الشرق الأوسط بدءاً من القرار 242 وخمسة قرارات تالية من بين قرارات أكثر عدداً. والمشكلة في قرارات مجلس الأمن من البداية، وبالنسبة لقضية الشرق الأوسط تحديداً، هي أنه لم يراجع نفسه في أي وقت ولا حدد في أي مرة المسؤولية عن عدم التنفيذ. وبدلاً من ذلك كان يتم القفز على قرارات مجلس الأمن والابتعاد عنها بجهود بدأت من إدارة ريتشارد نيكسون وحتى إدارة جورج بوش الابن. في القرار 242 مثلاً من مجلس الأمن هناك التزام بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها (في حرب حزيران/ يونيو 1967) مقابل التزام بإنهاء حالة الحرب معها. هذا الالتزام الأخير كان مطلوباً من مصر والأردن وسورية تحديداً باعتبارها الدول الثلاث التي ستسترد أرضها المحتلة. ولم ينص القرار 242 على تبادل أي علاقات من أي نوع، ديبلوماسية أو تجارية أو ثقافية، بين إسرائيل والدول الثلاث. وبالطبع ليست أي دولة عربية أخرى معنية هنا. لكن قفزاً على قرار مجلس الأمن ومن خارجه استحدثت الإدارات الأميركية المتعاقبة في مساعيها للسلام التزامات عربية إضافية بينما تقوم بتضييق التزامات إسرائيل. في اتفاقية كامب ديفيد مثلاً (1978) ومعاهدة أنور السادات مع إسرائيل (1979) أصبحت هناك نصوص زائدة وملاحق متوالية، ليس فقط بعلاقات متنوعة بين مصر وإسرائيل وأيضا مجالات ذلك التطبيع تفصيلاً. كان ذلك في حينه ابتعاداً كاملاً عن القرار 242 وكل قرارات الأممالمتحدة. وكانت معاهدة السادات مع إسرائيل توثق خروج أكبر دولة عربية من الصراع - أقله في المستوى العسكري - وتنزع سلاح معظم سيناء وتدخل قوات متعددة الجنسيات لتقيم في سيناء تحت قيادة أميركية لا تزال موجودة حتى الآن كرقيب إضافي على التزام مصر بالمعاهدة. مع ذلك فقد دعمت أميركا طلب إسرائيل باستدراج مصر إلى الانضمام لمعاهدة منع الانتشار النووي. كانت مصر قد وقعت بالأحرف الأولى على المعاهدة في 1970 ورفضت التصديق عليها إلا بعد انضمام إسرائيل. وفي 1981 أعطى أنور السادات لأميركا وإسرائيل التصديق على انضمام مصر إلى المعاهدة من دون أي التزام إسرائيلي في هذا الاتجاه على الإطلاق. كانت مدة المعاهدة 25 سنة وحينما جرى تجديدها في 1995 لم يعد لها نطاق زمني. بالنتيجة أصبحت مصر وحدها مقيدة بالمعاهدة منذ 1981 وإلى مستقبل مفتوح بينما إسرائيل طليقة الأيدي نووياً ترفض مجرد الحديث عن الانضمام إلى المعاهدة. وبعد كامب ديفيد قيل إن السادات حصل على وعد من رئيس وزراء إسرائيل في وجود الرئيس الأميركي جيمى كارتر بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. لكن إسرائيل أنكرت ذلك، بل وبدأت تضاعف معدلات الاستيطان وبرر الرئيس كارتر ذلك بقوله إنه فاته الحصول على التزام مكتوب من مناحيم بيغن بدلا من الشفوي. وأخيراً أصدر كارتر كتاباً جديداً بعنوان «نستطيع تحقيق السلام في الأرض المقدسة: خطة قابلة للنجاح». لكن تلك الخطة تبدأ بالتزام الدول العربية جميعا بعلاقات طبيعية وسلمية وديبلوماسية وتجارية مع إسرائيل. وقبل أيام أدلى الملك الأردني عبدالله الثاني بحديث إلى صحيفة «التايمز» اللندنية قال فيه إن واشنطن تروج لخطة تتضمن حلاً يضم 57 دولة يعترف فيها العالم الإسلامي كله بإسرائيل. وأضاف العاهل الاردني «نحن نعرض أن يلتقي ثلث العالم معهم بأذرع مفتوحة. المستقبل ليس نهر الأردن أو مرتفعات الجولان أو سيناء. المستقبل هو المغرب في المحيط الأطلسي وأندونيسيا في المحيط الهادئ. هذه هي الجائزة». والاسترسال في مثل هذا المنطق يجعلنا نصبح أمام مفارقة هي الأولى من نوعها تاريخياً. مفارقة أن دولة تحتل اراضي الغير، وبوحشية، ولمدة 42 سنة، تحصل على جائزة مقابل إنهاء احتلالها. إنها حتى تصر على أنها لن ترد كل الأرض بل تعمل بهمة لابتلاع المزيد والمزيد من الأرض عبر الاستيطان. وزيادة على ذلك تعبر عن أطماعها عملياً من خلال جدار فاصل تستمر في إقامته منذ سنة 2002. كان الرئيس جورج بوش الابن يعلن عن تبني بلاده لحل تقوم بموجبه دولة فلسطينية قابلة للحياة. بينما الرئيس الأميركي نفسه يطلق يد إسرائيل لمنع مثل هذا الحل على أرض الواقع. وكان جورج بوش يعلن أن الجدار الفاصل يتلوى كما الثعبان، ومع ذلك فالثعبان أصبح من حجر وأسمنت وتجهيزات إليكترونية ليصبح طوله عند اكتماله في العام المقبل 468 ميلاً تمثل طول كل الحدود الشرقية لإسرائيل. وإسرائيل لم تنفق على هذا الجدار بليوني دولار بنية السلام، فالجدار يبتعد عن الخط الأخضر (حدود 1967) بمائتي متر في مواقع وبأكثر من 22 كيلومتر في مواقع أخرى بما يعني استيلاءً إسرائيلياً نهائياً على جزء آخر إضافي من الضفة الغربية ولحساب 140 ألف مستوطن سيعيشون بين هذا الحائط والخط الأخضر. وسلطة محمود عباس في رام الله وكذلك سلطة «حماس» في قطاع غزة لم تستثمر أي منهما الحكم غير المسبوق الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 9/7/2004 بأغلبية 14 قاضياً مقابل واحد ويقرر: «إن إقامة حائط تقوم إسرائيل ببنائه، وهي سلطة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يتنافى مع القانون الدولي. وعلى إسرائيل التزام بأن توقف في الحال أعمال الإنشاءات... وأن تفكك في الحال الأجزاء التي أنشئت منه... وأن تقوم بإصلاح كل الأضرار والدمار الذي تسببت به إقامة الحائط». من تلك الأضرار مثلاً ولم يتناولها القرار تدمير 75 فداناً من المزروعات الفلسطينية ومصادرة 3700 فدان وقطع 102 ألف شجرة لإفساح الطريق أمام الجدار... آخر حقائق الأمر الواقع الذي تفرضه إسرائيل. في التوسع الأخير لمكاسب إسرائيل قام بنيامين نتانياهو بإبلاغ المبعوث الرئاسي الأميركي جورج ميتشل بأنه سيصر على الحصول على اعتراف فلسطيني صريح وقاطع بأن إسرائيل «دولة يهودية». ثم يتلاعب بالكلمات قائلاً: إن هذا ليس شرطاً مسبقاً للمفاوضات مع الفلسطينيين ولكنه شرط أساسي للتوصل إلى اتفاق. وبالطبع الهدف الضمني هنا هو إسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين نهائياً ومعه قرار الأممالمتحدة الذي يقر لهم بهذا الحق وبالتعويض. أكثر من ذلك طالب وزير خارجيته ليبرمان بإجبار فلسطينيي 1948 على أداء قسم الولاء لإسرائيل وطردهم إذا رفضوا ذلك. لكن التوسع الأحدث في مطالب إسرائيل جاء عبر تأكيد نتانياهو أن النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني لم يعد هو الأزمة في الشرق الأوسط وإنما الأزمة هي في صعود إيران نووياً ولو بقدرات مدنية. وتابعنا المؤتمر السنوي الأخير في واشنطن لمنظمة «إيباك» وهو يتبنى الاستراتيجية نفسها وكذلك قارن شيمون بيريز في المؤتمر إيران بألمانيا النازية. وهو ما تحدث عنه أيضاً وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك حينما قال إن المطلوب قبل أي اتفاق مع الفلسطينيين هو أولا «السلام الإقليمي». بذلك النوع المستجد من السلام أصبحت إسرائيل تقصد تحجيم إيران أولاً - وبالقوة إذا لزم - ودخول الدول العربية جميعاً في علاقات تطبيعية مع إسرائيل، تضاف اليها أيضاً 57 دولة إسلامية. من أجل سلام لن تحققه إسرائيل في نهاية المطاف. وستظل طليقة اليدين به ومن غيره. * كاتب مصري