قبل سنوات عدة من الآن كلفت إحدى دوائر وزارة الثقافة الفرنسية، الناقدة والباحثة كاترين كليمان بإجراء دراسة إحصائية ميدانية حول حصة الثقافة الحقيقية من برامج القنوات التلفزيونية الرسمية. وكان ذلك في زمن لم تكن فيه فورة الفضائيات و «الكابل» قد انتشرت. يومها وبعد دراسات استغرقت شهوراً طويلة وشارك في وضعها عدد من الخبراء والباحثين، أصدرت كليمان تقريرها في كتاب حمل عنوانه بدا مبهماً أول الأمر، واستغربه كثر من الناس: «ليلاً وفي فصل الصيف». غير ان الذين قرأوا الكتاب، ولم يكونوا كثرة على اية حال، سرعان ما أدركوا القوة الناقدة وقسوة الواقع الثقافي - التلفزيوني اللتين تجلتا في العنوان، وأكثر من هذا، طبعاً، في نص الكتاب والاستنتاجات التي طلع بها. ولنفسر هذا: استنتجت الكاتبة كما استنتج زملاؤها في المسح الدراسي لوضع الثقافة على شاشات التلفزة الرسمية الفرنسية أن هناك، بالفعل، برامج ثقافية تبث بوفرة وربما بنوعية مميزة ايضاً، لكن الغالبية العظمى من هذه البرامج لا سيما الأكثر جودة من بينها، لا تبث إلا في ساعات الليل المتأخرة وغالباً في برمجات الشهور الصيفية. اي في اختصار: حين يكون جمهور التلفزيون العريض والحقيقي خلد الى النوم، أو كفّ منذ زمن عن مشاهدة التلفزيون لينعم بإجازاته الصيفية. إذاً، بالنسبة الى ذلك التقرير - الذي استثنى يومها على الأقل برنامجاً أدبياً هو «أبوستروف» لبرنار بيفو على اعتبار انه ثقافي حقاً. لكنه في بثه التلفزيوني كان يشكل ظاهرة اجتماعية اكثر منه ظاهرة ثقافية، بالنسبة الى التقرير كانت الثقافة ابنة بائسة لزمن التلفزة، تخبأ حتى تقدم تحت ستر الليل، امام عدد ضئيل من المتفرجين. يومها، واستنتاجاً لهذا الوضع، ثارت احتجاجات المثقفين وراحوا يكيلون التهم للدولة ومحطاتها وينعون وضعاً ترحل فيه الثقافة الى ذلك المكان المظلم. حسناً... كان ذلك هو الوضع، فماذا عنه الآن؟ في فرنسا وعندنا وفي العالم كله؟ يقيناً أنه لو أجريت اليوم دراسات مشابهة لتبين ان الليل المتأخر حتى، وفصول الصيف، صارت هي الأخرى عزيزة المنال على كل ما هو ثقافي... وفكري وفني حقيقي وما الى ذلك، بحيث يترحم المرء على الزمن الذي كان فيه للثقافة، الليل والصيف... ترى أولم يقل الشاعر العربي: رب يوم بكيت منه فلما/صرت في غيره بكيت عليه؟