سئُل نجيب محفوظ ذات يوم: لماذا كان الإبداع الأدبي في مصر الستينات أكثر غزارة منه في السبعينات، مع أن هامش الحرية، خلال الحقبة الثانية، كان أكبر من الأولى؟ فأجاب قائلاً: «إن المبدعين في السبعينات كانوا أحراراً في أن يقولوا ما يشاؤون في أحاديثهم ومقالاتهم؛ وهو ما جنى على الجانب الإبداعي لديهم، حيث لم تكن أمامهم تحديات كتلك التي وجدت في الستينات، والتي قادت إلى إنجاز الأعمال الإبداعية، بما فيها من رموز وإسقاطات للتعبير عما يريدونه». إن هذا القول بقدر ما يدحض بعض المقولات السائدة بأن الإبداع الأدبي يحتاج إلى قدر من الحرية السياسية، فهو يقدم الأدب بوصفه نوعاً من المقاومة بالحيلة للقهر الذي تمارسه هذه السلطة على الجماهير، أو مجالاً لتنفيس المثقف عما يكنه في ضميره تجاه السلطة، ولا يستطيع أن يقوله في شكل مباشر، خوفاً من المساءلة. فاللجوء إلى الرمز، وتغيير ملامح بعض الشخصيات، وإعطاؤها أسماء غير أسمائها، وإضفاء بعض الخيال على الأحداث، أو العودة إلى وقائع تراثية وإسقاطها على الحاضر في ثوب قصصي، أو صناعة بطل منقذ يقفز فوق الواقع المتردي ويأخذ بيد الناس إلى مجتمع أفضل، تجعل المثقف أكثر أماناً في مواجهة القوانين، التي تسنها السلطة للحد من حرية التعبير. ولا تقتصر هذه الخاصية على الأدب الذي تنتجه النخبة، بل تمتد إلى الأدب الشعبي، بشتى أنواعه، حيث يحفل بصور لافتة للتحايل السياسي، الذي أنتجته قرائح البشر على مدار العصور، ويتوارثه الأنجال عن الآباء عن الأجداد. وتنطوي نصوص وممارسات عربية قديمة على أنماط جلية من التحايل، لاسيما في مواجهة الحكام. فهناك مخطوطة عربية مجهولة المؤلف في المكتبة الوطنية في باريس ترجح عودتها إلى القرن الثالث عشر الميلادي تحمل عنوان «رقائق الحلل في دقائق الحيل»، لم يعتمد كاتبها في نصحه للحكام على الأسلوب المباشر الذي اتبعه مكيافيللي، إنما سلك درب الحكاية والقصة كوسيلة لتعليم الحكام فنون الإدارة والحكم، وقسم حكاياته إلى حيل الملائكة والأنبياء وأدعياء النبوة والملوك والسلاطين والوزراء والقضاة والفقهاء والعباد والزهاد، ليحذر من خلالها الحكام من مغبة الظلم والاستبداد، ويبصرهم بالفوائد العظيمة التي تترتب على حكمهم بالعدل. ورغم أن «الآداب السلطانية» التي تمَّ تأليفها على نطاق واسع في التاريخ الإسلامي رمت في الأساس إلى تقديم النصيحة للملوك والسلاطين ومساعدتهم على إطالة عمر حكمهم بالسيطرة على الرعية وقهر المنافسين على السلطة وهزيمة العدو الخارجي، فإنها انطوت في جانبٍ منها، حتى ولو كان يسيراً، على نوع من المواجهة الحذرة، حيث لم يكن الناصح قادراً على أن يبين للسلطان مواطن الظلم في مسيرته السياسية. فكان يستبدل هذا بحديث مفرط عن «العدل» وإغاثة المظلوم والاتصاف بالكرم. ومع أن غالبية الحكام لم تتعامل مع هذا النوع من النصائح بما يليق به من أهمية، ولم تحمله على الجد، مدفوعة ب «طبائع العمران وليس بما تحطه التآليف» كما يقول ابن خلدون. فكثيرٌ من مدبجي الآداب السلطانية كانوا يشعرون أنهم يؤدون ما عليهم من دور بمواجهة الحاكم بحذر وحساب، تقتضيه طبيعة العلاقة بين الطرفين، التي تقوم على تبعية الناصح للحكام واستقواء الأخير على من يقدم له النصح. وبعض هذه النصائح أخذ صيغة مباشرة،مثل ما جاء في كتاب «نصيحة الملوك» للماوردي الذي ينطلق من أن «الملوك أولى الناس بأن تُهدى إليهم النصائح، إذ كان في صلاحهم صلاح الرعية، وفي فسادهم فساد البرية»، لينصح أهل الحكم بأن يترفعوا عن مشاكلة أهل الغباوة والجهالة، وسوء النشوء والعادة، وأن يجالسوا العلماء، ويأخذوا بآداب الدين، ويتعلموا أن المُلك لا ينال إلا بالخدمة الطويلة، والرياضة الصعبة الشديدة، والمخاطرة العظيمة والأشغال الكثيرة والآمال البعيدة، التي ربما أتت دونها المنية لأن المُلك محنة وابتلاء. ثم يحمل الماوردي على الحاشية التي تحيط بالسلطان، ويرى أن معظمهم لا يكلمون الحاكم إلا بما يوافق أهواءه، ولا يستقبلونه إلا بما يطابق آراءه، مخافة على منافعهم، وتحصيناً لدمائهم. وبعض النصائح أخذ صيغة غير مباشرة. وفي كتابه الأثير «الإمتاع والمؤانسة»؛ يقدم لنا أبو حيان التوحيدي أمراً من هذا القبيل، فحين يطلب منه الوزير أبو عبدالله العارض أن يحدثه عن حكاية غريبة يختار بدهاء وذكاء واحدة من حكايات الشطار والعيارين، الذين أظهروا تحدياً شديداً لسلطة العباسيين، إذ يقول: «كل ما كنا فيه، كان غريباً بديعاً عجيباً شنيعاً حصل لنا من العيارين القواد، وأشهرهم أبو الدود وأبو الذباب، وأسود الزبد، وأبو الأرضة، وأبو النوابح، وشُنَّت الغارة، واتصل النهب وتوالى الحريق حتى لم يصل إلينا الماء من دجلة». وبعد هذه المقدمة التي يقدح فيها هؤلاء المتمردين، وإن كان يُظهر فيها قوتهم وعظم تحديهم للخلافة، يميل إلى ذكر ملحة لأسود الزبد، الذي كان يعيش عاري الجسد إلا مما يستر عورته، وكان سفاحاً مغيراً، طالما سفك الدم ونهب وسلب، ومع هذا فإنه أعتق جارية اشتراها بألف دينار رغم أنه كان يعشقها بجنون، فهي «لما حصلت عنده، حاول منها حاجته، فامتنعت عليه، فقال لها: ما تكرهين مني؟ قالت: أكرهك كما أنت. فقال: فما تحبين؟ قالت: أن تبيعني. قال لها: أو خير من ذلك أعتقك وأهب لك ألف دينار. قالت نعم. فأعتقها وأعطاها». وقد وجَّه الوزير سؤالاً إلى أبي حيان عن مصير هذا الرجل فقال له: «صار في جانب أبي أحمد الموسوي وحماه، ثم سار إلى الشام فهلك فيها. وهنا يرسم التوحيدي، الذي طالما مارس التحايل في صيغة الصبر المدبر، للوزير بدهاء معالم الشهامة والرجولة عند معارضي الدولة التي يمثلها، ويظهر حجم جبروتها حين يبين كيف أنها تتخلص من معارضيها، مع أن استئناسهم ليس عصياً، ما يدل عليه موقف أسود الزبد من الجارية. ويحفل الأدب الشعبي بأشكال ومظاهر عدة للمقاومة بالحيلة. فشخصية جحا مثلاً، التي توزعت على حضارات وجنسيات شتى، تبدو نوعاً صارخاً من التحايل الذي يقوم على المكر والدهاء والذكاء وسرعة البديهة وبلاغة الرد في مواجهة سلطة غاشمة أو شخصية متجبرة أو موقف صعب. وامتدت هذه الشخصية لتطوق اهتمامات وميولاً ومجالات عدة، فقدمت الجانب الإنساني في (جحا العربي) والجانب الاجتماعي في (جحا الفارسي والتركي) والسياسي في (جحا المصري) لتبدو في النهاية شخصية أسطورية ترمز إلى التندر ممن يملكون على الناس أي سلطة، ويسيئون استخدامها، وتسعى إلى حض الجماهير على المقاومة، وتعبئتهم بطريقة ناعمة وبطيئة من أجل الوقوف في وجه الجائرين، والسعي الجاد إلى التغيير. وقد فاض «الأدب الجحوي» بألوان من النقد السياسي، لاسيما أن ظهور شخصية جحا، كمسألة رمزية، ارتبط بحقب زمنية كان يشتد فيها الصراع بين قوميتين أو أكثر، أو التي تنهار فيها دول وتقوم أخرى على أنقاضها، حيث تشتد التناقضات في النظم الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، ويزداد الكبت والقهر والقمع، وتصبح هناك ضرورة للعمل على مواجهة هذه التناقضات وحلها، والتغلب على هذا القهر وإنهائه، ولو موقتاً، ومقاومة التسلط والفساد لإضعافهما إلى أدنى حد. وأخذت شخصية جحا ثلاثة مسالك أساسية للمواجهة الحذرة، الأول هو عدم الاكتراث بالظاهر من الأمور والاعتصام بنزعة صوفية تقي الفرد من الذوبان مع المقهورين، أو الاستسلام التام للتسلط. والثاني هو الاندفاع نحو المجون، بوصفه نزعة من نزعات التمرد على الواقع، أو الهرب منه بالاستعلاء عليه. أما الثالث فهو السخرية من الواقع المعيب، والأشخاص المتكبرين والمستبدين. وهذه المسالك يعاد إنتاجها مع الزمن، بحيث يبقى «الرمز الجحوي» ملهماً لألوان من الفكاهة والتندر والسخرية الحديثة والمعاصرة.