«لطالما جذبت مدينة دير القمر اللبنانية اهتمامي منذ الطفولة ببيوتها العتيقة المزينة بالقرميد الأحمر، وها أنا اليوم أقف على خشبة مهرجاناتها تحية لسيّد درويش»، بهذه العبارة بادر المغني اللبناني عيسى غندور «الحياة» في تلك الليلة التي «دار فيها القمر». فكانت ليلة مصرية – عربية بعثت موسيقى عريقة – عتيقة في أبهى الحلل، تماماً كما هي بيوت البلدة الأثرية الضاربة في أصالة جبل لبنان. ها هي «عاصمة الأمراء» كما يحلو لأبناء دير القمر تسمية مدينتهم – تكرّم الراحل سيّد درويش فتفتح له أهم قصورها التاريخية قصر الأمير يوسف الشهابي وتستقبله بلافتات الترحيب في ساحتها العامة وعلى مدخل القصر الشهابي الذي يعود الى العهد العثماني. جمهور درويش العربي والأجنبي قدِم بكل فئاته العمرية ليحييّ قامة فنية عربية. كلود ميراني التي ناهز عمرها السبعين اصطحبت معها ابنتها وحفيدتيها الشابتين و«سلطنت» على مقاطع أغنيات درويش، بينما أخذت حفيدتها وهي في العقد الثاني من العمر تصفّق بحرارة في مواكبة لغناء غندور. ولفت في الحفلة الشرقية بامتياز وجود الفرنسي برنار لوتيه، وهو من عشاق الموسيقي محمد عبدالوهاب وفيروز وأم كلثوم وأتى الى دير القمر ليستمتع بالموسيقى الشرقية، خصوصاً أنه عاش في الشرق الأوسط عقدين من الزمن. وحول انتقال غندور الى إحياء أغاني مجدّد الموسيقى العربية، يقول الأسمر المعتمر طاقية: «هذا التراث الفنّي ليس غريباً عن بيتنا فوالدي الموسيقي حسن غندور أرسى دعائم هذه الفن في ذاكرتنا منذ الصغر، وما تعاوني اليوم مع فرقة المدينة سوى تجسيد لقناعة ما في ذاكرتي». ويضيف: «اخترنا سيّد درويش لأنه يمثّل أهم حلقات الأصالة، وخصوصاً هنا في هذا القصر التاريخي العريق حيث تتناغم مع مجد سيّد درويش الذي أرساه مع بديع خيري في زمن صديقه الزعيم الوطني سعد زغلول باشا». وعما يميّز العمل، يقول غندور: «حاولنا العودة الى أصول الكلمات التي أدّاها سيد درويش، فللأسف أساء العديد من المطربين الى أغانيه من طريق تحريف الكلمات وهذه إساءة معنوية لا بل إهانة لتراثه. وما أنجزناه أننا عدنا الى أصول الأغاني وأديّناها بأمانة وصدق وأعدنا الماضي الفنيّ الجميل وذكّرنا البعض ممن نسوا أو تناسوا بإرث ومسيرة سيّد درويش». السهرة «الدرويشية» كانت ممتعة كرّت فيها سبحة الأغنيات و«الطقاطيق» ومعها علت الهتافات داعية غندور للإعادة مرة ومرات. ومع أغنية «طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة» أعاد غندور الكرّة لمقاطع هذه الأغنية الشعبية الرائعة... وعلا صوت غناء الجمهور الذي ترك الميكروفون له كي «يرندح» على سجيته. وامتد ذلك الى أغنية «الحلوة دي قامت تعجن بالفجرية» وغيرها. وأتت قمة البراعة لدى عيسى غندور عند تقديمه أغنية «دقي دقي دقي» باللهجة السودانية القديمة التي تحكي العلاقة التاريخية بين شعبي مصر والسودان اللذين يشربان من نيل واحد فلا فرق بين أبيض وأسود وبين ضفة وأخرى... هذه اللفتة الفنية والتحية من قبل منظمي المهرجان للسيّد درويش جاءت ضمن برنامج صيفي حافل يختصره نائب رئيس لجنة مهرجانات دير القمر فادي حنين، بالقول: «على رغم الإمكانات المتواضعة لدير القمر مقارنة مع مهرجانات أخرى، استطعنا خلال 11 سنة تقديم برامج متنوعة ثقافياً وتراثياً وفنياً». ويضيف: «هذه السنة عوّلنا على طاقات الشباب اللبناني في الحفلات فنستضيف فرقة «ارتجال» لمازن كرباج وشريف سهناوي، و«Guarana» مع مغنية الأوبرا منى حلّاب وعادل مينكارا وغريس ميشال وإيلي شمالي و«Meen» وهي فرقة روك شبابية - لبنانية أيضاً أسسها فؤاد وطوني يميّن». ويشير حنين الى أن حفلة عيسى غندور مع فرقة المدينة «التي أردناها تحية للسيد درويش هي واحدة من وسائل سعينا لتشجيع ودعم جهد الشباب اللبناني». ودعا الى زيارة البلدة ليلاً ونهاراً اذ تتضمن فعاليات المهرجان فتح بيوت «الديريين» للزوار والسياح كي يطّلعوا على فن العمارة اللبنانية ويتفاعلوا مع أهل المدينة. وخصّص المهرجان الذي يستمر حتى أواخر أيلول (سبتمبر) المقبل يوماً للرسّامين من كلّ لبنان لرسم تراث دير القمر في الهواء الطلق بين الزواريب والأحياء القديمة، قبل أن توزع عليهم الجوائز في حفل كوكتيل. كما ان الاهتمام بالطفل في دير القمر موجود بقوة من خلال أفلام ومسرحيات وسيرك، فضلاً عن العروض الموسيقية مع فقرات خاصة عبارة عن دورات في العاب مثل «السكرابل» و«البريدج» و«البيتانيك». ولا ننسى عرض السيارات الكلاسيكية القديمة الذي أمسى حدثاً تقليدياً تمتاز به دير القمر.