هل الأفكار تشيخ حقاً ثم تموت؟ وهل يسري على الأفكار القانون نفسه الذي تدور به نواميس الكون، من ولادة، فحياة ثم فناء؟ وهل تمر الأفكار بطور النمو كالجنين في رحم المكان المظلم، إلى طفل يحبو نحو عالم ما زال الزمن فيه مجهولاً؟ وهل تنعم الأفكار بمرحلة فورة الشباب ومن ثم رزانة النضج، انتهاء بالخلوص إلى حكمة الكبار؟ تلك الحكمة التي عادة ما تتلخص فيها معالم جيل بأكمله في مجرد «لحظة» تختصر الزمان والمكان، أو «حكمة» تنطق بها عقلية ما كان لأحد أن يصقلها من دون المرور بالكثير من المواقف والتجارب اليومية. في هذه «اللحظة» يتسلل الكون بتعقيداته إلى حالة غير معهودة من السكون، تتوقف فيها صيرورة الحياة السريعة وتتيه تفاصيلها في زحمة المخيلة الممتلئة بالمواقف اليومية بحلوها ومرها. «لحظة» يستمر معها صاحبها باسترجاع كل ما احتوته ذاكرته من تفاصيل على مدى سنوات، لتدرك حينها كم أن الانخراط في تفاصيل «اللحظة» يعطيك قدراً كبيراً من الوقت لتحديد عمر أفكارك. وإذا ما كانت أعمار الأشياء تقاس فعلياً بالساعة أو اليوم أو السنة، فإن عمر الأفكار يحدد بمقدار فهم تفاصيلها وخباياها وعياً، وخوض غمارها تجريباً، وتجنب المرور بأخطارها ابتعاداً، واقتناص فرصة الاستمتاع بأخرى اقتراباً. وهكذا، وصولاً إلى «الحكمة» التي تلخص عمر تلك الأفكار وبكل تفاصيلها الضاربة في الزمان بكلمات قليلة لا يتعدى التلفظ بها «اللحظة». وعلى هذا النحو فإنه يمكن لكل إنسان أن يقيس عمر أفكاره عبر فهم تفاصيل المسافة الفاصلة بين «اللحظة» و «الحكمة»، أو من خلال إدراك الزمن الذي تستغرقه الأفكار كي تلخصها «اللحظة» والتي لا تجد بدورها إلا في «الحكمة» تعبيراً صادقاً لها. وإذا ما أدركنا أن الأفكار، كغيرها من الأشياء، تتغير، فلماذا لا نتوقع ذلك التغير ونتحسب على الأقل لأن تكون نتائجه جيدة دائماً؟ وهل يمكن لشخص ما أن يسير على هدي أفكار من سبقوه مع ضمان الوصول إلى النتيجة نفسها؟ وإن كان ذلك يحتمل قليلاً من الصواب المحفوف بالكثير من العبث، إلا أن صيرورة الأفكار ودورة حياتها في معترك الحياة لا يمكن تلمس مسارهما بسهولة أو حتى مجرد التنبؤ بنتائجهما. ثمة شيء يمكن التأكد منه هنا وهو معرفة قدر التغيير الذي يعتري الأشياء ولكن بعد مرور الزمن. أكتب اليوم ما تحويه مخيلتك من تجارب ومواقف وأحداث وتمنيات، طموحات ورغبات، أو حتى أحلام، ثم احتفل مع هذه السطور في عيد ميلادها الأول بقراءتها، فستجد كم أنك وأفكارك كنتما قديمين، ليس لأنك لم تقدح زناد فكرك حينها لتخرج كل ما لديك من أفكار، ولكن لأن الأفكار تسبح في بحر زمان واحد وفي المكان نفسه وهو الذاكرة، وعندما لا يتسع بها المكان لما هو قادم يلتهم جديد الأفكار قديمها، ويتغذى جديدها على قديمها منتجاً فكراً آخر مختلفاً. إن أهمية السطور الأولى أو القديمة تكمن في أنها لا تبيح كل ما بداخلها من أسرار عندما تنساب الأفكار سابحة في منطقة هي الأقرب إلى منطقة الأحلام في العقل الإنساني. وفي حالة كهذه فإن الإنسان يكون مأخوذاً بشغف الرغبة الطموحة من أجل تحقيق الكثير من الأحلام طالما أنه انتقل إلى حالة جديدة تراءت له فيها الأحلام على مرمى قدم أو أقرب فاتحة أمامه آفاقاً رحبة لا يعلم ماذا سيكون نتاجها. وإن لم تكن السطور القديمة مهمة، فإنها على الأقل ستخبرك بقدمها وستعترف بذلك ضمنياً من خلال اختلاف تفسير معانيها بأن أصبحت غير ملازمة للحالة الجديدة التي تعيش، وفي كثير من الأحيان سترى كم كانت باهتة دلالات الكثير من الكلمات، حتى وإن كُتبت في أحسن حالة جاد بها عقلك. فالإنسان عادة ما يكون أسيراً للحظة أو الحالة التي يجلس فيها كي يخط بعض السطور. ختاماً، غداً ستصبح هذه السطور أو الأفكار قديمة وسيغزوها الهرم وتبدو عليها ملامح الكبر، لتؤكد من جديد حقيقة واضحة وهي أن شيخوخة الأفكار أسرع من شيخوخة الجسد.