في مثل هذه الأيام من العام الماضي، أطلق رجب طيب أردوغان ما سمي بالانفتاح في المسألة الكردية. وارتفع منسوب الآمال تدريجاً، خلال الأشهر التالية، في حل أكثر مشكلات البلاد تعقيداً ودموية. ولجأت الحكومة إلى خطة عمل مبتكرة تمثلت في استمزاج الرأي العام حول آليات الحل، فتولى وزير الداخلية إدارة الحوار مع مختلف الفاعليات الاجتماعية، ودعت الحكومة الجميع للمشاركة في صوغ الحلول. كان من الفوائد الجانبية لهذه الخطة أن الحوار الاجتماعي انطلق جريئاً يهدم كل التابوات المتوارثة في شأن المسألة الكردية. وسنرى أن هذا الهدم كان الإنجاز الوحيد تقريباً للانفتاح، في حين أنه أطلق ديناميات مضادة ستقضي عليه أو تكاد، بعد أقل من عام على إعلانه. كان أمراً منافياً للذوق السليم أن تحاور الحكومة «الجميع» باستثناء حزب المجتمع الديموقراطي الذي يمثل أكراد البلاد في البرلمان، في مسألة هي سبب وجود هذا الحزب. فقد اشترط أردوغان عليه أن يعلن حزب العمال الكردستاني وزعيمه الأسير عبدالله أوجلان إرهابيين، ليوافق على الحوار معه. في حين رفض حزبا المعارضة الرئيسيان، حزب الشعب الجمهوري ممثل العلمانية المتشددة، وحزب الحركة القومية المتشدد، أي حوار مع الحكومة في شأن انفتاحها في المسألة الكردية. وهكذا وجدت الحكومة نفسها معزولة تماماً في المستوى السياسي، في مشكلة لا يمكن حلها إلا بأوسع توافق بين جميع الفاعلين. وسرعان ما انطلقت ديناميات سياسية مضادة من شأنها، ليس فقط دفن المبادرة الحكومية، بل العودة بالمسألة الكردية إلى الثمانينات والتسعينات التي شهدت إراقة الدماء بغزارة في حرب داخلية ستكلف البلاد أكثر من أربعين ألف قتيل. بل إن اللحظة الراهنة في المشهد السياسي التركي تنذر بما يتجاوز ذلك إلى حرب أهلية قد لا تنتهي إلا بتقسيم تركيا. ففي مواجهة المبادرة الحكومية، صعّدت المعارضتان العلمانية والقومية من خطابهما القومي المتطرف، محرضتين الأتراك ضد الحكومة والأكراد معاً. في حين تمسكت قيادة حزب المجتمع الديموقراطي بشرطها لدعم المبادرة الحكومية في أن تحاور هذه عبدالله أوجلان بالذات. وهكذا دخلت المبادرة في طريق مسدود. والعقدة هي من يحاور من. بيد أن الديناميات المضادة لن تقف عند هذه النقطة، بل ستراكم على مدى شهور شقاقاً أهلياً بين الأتراك والأكراد من شأنه أن يدفع بالأمور إلى نقطة اللاعودة. وكانت أبرز تجليات هذا الشقاق، احتكاكات أهلية منذرة بالمخاطر في غربي البلاد بخاصة. فقد شهدت مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجه عدداً من أحداث العنف الأهلية، كان أبرزها الاعتداء على موكب رسمي لحزب المجتمع الديموقراطي وصل المدينة للقاء جمهوره الكردي فيها. وفي الأصل، يتألف سكان إزمير بغالبيتهم من مهاجرين مسلمين من دول البلقان هربوا من اضطهاد الدول القومية الناشئة على أنقاض الامبراطورية العثمانية، كبلغاريا ويوغسلافيا واليونان. المفارقة أن هؤلاء المهاجرين الذين تترّكوا من خلال الإسلام، شكلوا دائماً الجناح الأكثر تطرفاً في التيار القومي التركي. أما أكراد المدينة فقد استوطنوها في الثمانينات والتسعينات، بعد تهجيرهم القسري من شرق تركيا وجنوبها الشرقي حيث الغالبية الكردية. فمنذ انطلقت العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني، أواسط الثمانينات، لجأ الجيش التركي الذي تولى قيادة «الحل الاستئصالي» للمشكلة، إلى سياسة الأرض المحروقة، فتحولت الحرب من حرب ضد «حفنة من الإرهابيين» إلى حرب شاملة على الشعب الكردي، فتم إخلاء مئات القرى من سكانها الذين تم تهجيرهم إلى غرب البلاد. لم يكن هذا مجرد عقاب للشعب الكردي على دعمه حزب العمال الكردستاني، بل كان استئنافاً لسياسة مؤسس الجمهورية مصطفى كمال وخليفته عصمت إينونو اللذين حلما بإقامة أمة تركية صافية من أي شوائب عرقية أو ثقافية. كانت الفكرة إذاً أن تشتيت الأكراد خارج موطنهم الأصلي ودمجهم بالأتراك، سيقضيان نهائياً على تطلعاتهم القومية. وبالنسبة الى سكان إزمير «محدثي الهوية التركية» الذين استوطنوا المدينة أصلاً بعدما أفرغها أتاتورك من سكانها اليونانيين، شكل الأكراد المهجرون حديثاً مصدر خطر على هوية مدينتهم، ومنافسين على فرص العمل الشحيحة. فإذا أضفنا «نمط الحياة» العلماني السائد في المدينة الذي يرى في الآخر الكردي مصدر تهديد يضاف إلى الخطر الأصلي الذي تشكله حكومة أردوغان الإسلامية، اكتملت مقومات شقاق أهلي قابل للانفجار بأقل تحريض. والحال أن جرعة التحريض كانت أعلى مما يمكن الوضع الموصوف احتماله. فقد أعلن دولت بهتشلي، زعيم الحزب القومي التركي المتشدد، أردوغان وحكومته «خونة» يريدون تقسيم تركيا. وأخذ يلوّح بحبل المشنقة في قاعة البرلمان مطالباً بإعدام عبدالله أوجلان، بعد مرور أكثر من عقد على إلغاء عقوبة الإعدام دستورياً. في المقابل، أعلن أوجلان عن انتهاء الهدنة من طرف واحد التي مارسها حزب العمال الكردستاني منذ سنوات. وكانت عملية الهجوم على سفينة حربية تركية في الحادي والثلاثين من أيار (مايو) الفائت في مرفأ إسكندرون، بمثابة الإعلان عن فصل جديد من الحرب الكردية ضد الجيش التركي، تصاعدت بعدها عمليات الحزب المؤلمة ضد الجيش مع التهديد بتوسيعها لتشمل المدن الكبرى في تركيا. واستأنف هذا الأخير عملياته العسكرية في جنوب شرقي الأناضول وفي ما وراء الحدود، في عمق إقليم كردستان العراقي. وطالب دولت بهتشلي بالعودة إلى تطبيق حال الطوارئ والأحكام العرفية في الولايات ذات الغالبية السكانية الكردية، وارتفعت وتيرة المطالبة بإعدام أوجلان من جديد. ربما من الإجحاف تحميل الحكومة المسؤولية الكاملة عما آلت إليه الأمور. فالفاعلون السياسيون والاجتماعيون يتحملون جميعاً قسطهم من مسؤولية إفشال المبادرة الحكومية التي بدأت جريئة وطموحة وانتهت منذرة بالمخاطر. لكن التفويض الشعبي الواسع الذي تتمتع به الحكومة يحمّلها القسط الأكبر من المسؤولية. ولعل أبرز أخطائها يتمثل في الهروب من تعقيدات المشكلة الكردية إلى التنطح لأدوار خارجية كبيرة لا يمكن أن تثمر من غير تأمين الوضع الداخلي. فجاء الاعتداء الإسرائيلي على قافلة المساعدات الإنسانية، وتصويت تركيا ضد مشروع العقوبات الجديدة ضد إيران في مجلس الأمن، ليمسكا بحكومة أردوغان في عزلتها الداخلية القصوى. يتحدث الجميع الآن عن انتخابات مبكرة، قد تطيح الحكومة وكل ما بنته على مدى ثماني سنوات في الداخل والخارج. غير أن هذا يتطلب تحليلاً مستقلاً بإدخال عناصر أخرى تم استبعادها في هذا المقال. * كاتب سوري متابع للشؤون التركية.