هل قرأنا محمد عفيفي مطر؟ لا أدري تحديداً مَن أقصد بضمير الجمع هنا: «نحن». لكنّ السؤال هذا يطرح نفسه بالحاح غداة رحيل الشاعر المصري الذي بدا متفرداً بصنيعه ومنقطعاً عن جيله والأجيال السابقة التي تأثر ببضعة أسماء منها، وعن الأجيال التي أعقبته والتي قرأته ولم ينثن بعض شعرائها عن رميه بالسهام. هذا الظلم الناجم عن عدم قراءته جيداً، مصرياً وعربياً، كان صاحب «الجوع والقمر» يشعر به ويتألم له كثيراً، وكان غالباً ما يعلل هذا الظلم بخروجه كمثقف عن مؤسسة السلطة وتمرده عليها، ما حرمه من نشر دواوينه في مصر، فصدرت خارجها. وقد شاعت حال العداء بينه وبين الشاعر صلاح عبدالصبور الذي رفض نشر أعماله أيام كان يرأس هيئة النشر في وزارة الثقافة. لكن هذا العداء الذي تحدث مطر عنه مراراً جعل الكثيرين ينحازون الى صلاح عبدالصبور، الشاعر الكبير الذي أحدث صدمة في الشعر المصري والعربي الحديث. وراح بعضهم ينقمون على مطر بعد اعتناقه «البعث» في صيغته العراقية ورحيله الى بغداد وانتمائه الى المؤسسة الرسمية هناك، وقيل إنه أجبر على هذا الانتماء وعلى العمل في اذاعة «صوت مصر العربية» التي كان أنشأها صدام حسين بغية مواجهة النظام المصري والتطبيع السياسي مع اسرائيل. وهذه «الشبهة» التي كيلت للشاعر تحتاج الى قراءة أو مقاربة عادلة للوقوف على حقيقة علاقته بالنظام البعثي العراقي المستبد والظالم والسفاح، مع أن مطر تحدث جهاراً إبان حرب الخليج عن «مسمار حذاء صدام حسين». وهذا ما حمل الكثيرين أيضاً على نقده ومهاجمته بقسوة. قد لا يكون ملائماً الكلام الآن بُعيد رحيل الشاعر، عن انتمائه السياسي الملتبس، أو عن موقفه المعادي للنظام المصري وللتطبيع، وقد كلّفه هذا الموقف دخول السجن والتعذيب على يد العسكر، وترك في وجهه أثراً لجرح بالغ لم يكن ليزول. هذا شاعر فريد بحق، سواء كانت الفرادة صفة ايجابية هنا أو غير ايجابية. فقد أخذ عليه بعض النقاد غموضه وصعوبة قراءته لا سيما في مرحلته الوسطى، عندما راح يطغى الهمّ الميتافيزيقي على شعره، مصحوباً بنزعة تكوينية تمثلت خصوصاً في مقولة الطمي والحكمة والخرافة أو الميثولوجيا الطالعة من عمق الأرض الأولى، الفطرية أو البدائية. ولا أدري من وصف مطر ب «آخر الشعراء الجاهليين» وهذه صفة مصيبة جداً ويمكن أن تضاف اليها صفة الحداثة فيقال عنه: «آخر الشعراء الجاهليين الجدد أو المحدثين». فهذا الشاعر الذي كان على علاقة وشيجة ب «التراث» الذي كان يفهمه على طريقته ومن خلال نظرته الفلسفية، تمكّن من جعل التراث معطى تكوينياً وميتافيزيقياً. فاذا هذا التراث الذي لا يمكن قصره لديه على مواصفات جاهزة ومستهلكة، يضحي حالاً من الكينونة أو الفطرة التكوينية والبكورة. ومن هذا التراث الحي والمتمثل في الطمي، طمي الوجود، استخلص فكرة الرائي المناضل، الرائي الذي يحمل رسالة شديدة الانسانية، الرائي الذي يُقهر ويُعذب ويُسجن. وعلى غرار السياب الذي تأثر به في مقتبل حياته استعاد مطر شخصية المسيح المتألم والمفتدي. كان محمد عفيفي مطر شاعر المراحل، وبدت كل مرحلة لديه تختلف عن الأخرى. هذا ما يلحظه قارئ أعماله الشعرية الكاملة التي صدرت قبل أعوام قليلة عن دار خاصة هي دار الشروق، وكان هو يتحرق الى صدورها، وفي ظنه أن أعماله الكاملة التي طالما رفضت المؤسسة الرسمية المصرية نشرها هي التي ستيعد اليه موقعه في صدارة المشهد الشعري المصري والعربي، وستتيح للأجيال أن تقرأه قراءة حقيقية فيسترجع حقه الذي كُتب له أن يُهدر طوال أعوام، وينضو عن نفسه الغبن الذي كان يمضّ حياته، شخصاً وشاعراً. كان مطر بحق شاعراً متعدداً، بجوه ولغته كما بهمومه ورؤاه، ويمكن بسهولة رصد تطوره، ديواناً تلو آخر. وهذا التعدد منح شعريته رحابة وعمقاً في آن واحد، فهو وظف ثقافته الواسعة ونزعته الفلسفية في صميم التجربة التي خاضها، ولعله وفّق أحياناً في هذا التوظيف ووقع في أحيان أخرى ضحية له. ويذكر قراؤه كيف حاول في ديوانه الغريب «ملامح من الوجه الامبيدوقليسي» أن يسلك مسلك الشاعر الألماني هلدرلن في كتابه «موت امبيدوقليس» مسقطاً تجربة الشاعر الاغريقي الماقبل سقراطي على المعاناة «الوطنية» التي كان يقاسيها. إلا أن رحابة عالمه وعمقه والأسئلة التي حفل بها جعلت شعريته أوسع من شعرية أمل دنقل على سبيل المثل وهو ابن جيله، أو شعرية أحمد عبدالمعطي حجازي الذي عرف كيف يخطف الأضواء ويتنعم بالشهرة. كان محمد عفيفي مطر يشعر بالغبن، وهذا من حقه، فهو كان يرى أن الشعراء الذين احتلوا ساحة الشعر العربي الحر من أمثال أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وصلاح عبدالصبور وحجازي ليسوا أكثر منه موهبة أوأشد شعرية. وكان لا يتوانى عن مهاجمة أدونيس ليرد عنه تهمة التأثر به في بداياته. لكنه كان يحس من تلقائه أن أثره في الجيل الذي أعقبه كان أشد نفاذاً من أولئك الشعراء، وهذا ما كان يعزيه. ولئن كتب في العام 1959 في قصيدة «كلمة نفسي» يقول هاجياً نفسه ومستقبله: «وأعلم أني سأعيش أصغر شاعر/ وأموت مجهولاً ومغبوناً»، فان تنبؤه هذا لم يصدق البتة، ولو مات وفي نفسه إحساس بالغبن. وقد يكون هذا قدره هو الذي أخذ عن نيتشه مفهوم الحياة بصفتها «احراقاً واحتراقاً». لا أنسى البتة اللقاء الذي جمعني به عن كثب عام 1993 في الرباط خلال أحد المهرجانات الشعرية. كان مضطرباً حينذاك وقلقاً ولم يستطع اخفاء هذين الاضطراب والقلق عن أصدقائه الشعراء وكان بينهم سعدي يوسف. ولما أصررنا عليه كي يكاشفنا بالسر، باح به وقال إنه سيبلغ خلال يومين الثامنة والستين، وهذا عمر يموت فيه الرجال في عائلته، وأخبرنا أن والده وعمه وجده ماتوا في هذا العمر، وقد أوصاه والده ويدعى عامر، أن ينتبه الى هذا النهار. ولكن ما إن مضى أسبوع المهرجان وتجاوز مطر عامه هذا ببضعة أيام، حتى عادت الابتسامة الى وجهه، فهو اطمأن الى أنه لم يمت وأن تنبؤ والده لم يكن صادقاً. وعندما فاز مطر بجائزة العويس (1999) ولبى الدعوة الى دبي لتسلمها، ظهر ليلة الاحتفال ثم اختفى. وعندما سألنا عنه بالحاح علمنا أنه كان يؤثر البقاء في غرفته، بعيداً عن الصحافيين وأسئلتهم. ولم أعرف شخصياً ان كان سبب هذا الانعزال خشيته من أن يُسأل عن موقفه إبان حرب الخليج بعد تسلمه جائزة خليجية. هل قرأنا محمد عفيفي مطر؟ أعتقد أننا سنقرأه بدءاً من الآن!