لم تعد قضية المهاجرين وحدها التي تؤرق العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، فمظاهر الأزمة باتت متعددة ولا حصر لها، فمن انتقاد تركيا في ملف حقوق الإنسان وأوضاع الأقليات، بجوار الخوف من التوجه السلبي لاحترام حرية الرأي والتعبير وتقييد حرية الصحافة، وكان آخرها سجن جان دوندار رئيس تحرير صحيفة «جمهوريت» ومساعده اردام غل. في سياق متصل، ندَّد الاتحاد الأوروبي بالتوجهات السلطوية للرئيس التركي، وخصوصاً التدخُّل في عمل السلطة القضائية، وجهوده لتمرير قانون يعيد تشكيل محاكم التمييز والاستئناف، من خلال طرد مئات من قضاتها وتعيين آخرين موالين له. من جهتها انتقدت فدريكا موغيريني؛ منسّقة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، نهج نخب الحكم في تركيا، وأكدت «أن مداهمة الشرطة واعتقال الصحافيين وممثلي الإعلام في تركيا، يتعارض مع حرية الإعلام التي هي مبدأ جوهري من مبادئ الديموقراطية». التوتر بين تركيا والاتحاد الأوروبي امتد من سياقه الرسمي إلى الإطار الشعبي، وكشف عنه مثلاً، رفع أردوغان دعوى قضائية منتصف الشهر الماضي ضد الفنان الكوميدي الألماني يان بويمرمان لإلقائه قصيدة على قناة «زد. دي. إف» التلفزيونية العامة، يسخر فيها منه بإشارات جنسية. أيضاً اعتبر الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أن «أسوأ ما قد يحصل للاتحاد الأوروبي هو خروج بريطانيا منه، وانضمام تركيا إليه»، واعتبر ساركوزي أن تركيا في عهدة «العدالة والتنمية» في طريقها إلى السلطوية وتكريس السلطة الأبوية. الخلاف بين أنقرة والاتحاد الأوروبي بلغ مبلغاً مع التصريحات الرسمية الخشنة التي أطلقها أردوغان؛ وآخرها اتهام الرئيس التركي الكيان الأوروبي بتهميش الديموقراطية والحريات بعد أن بدأت القنابل تنفجر على أراضيه، وأضاف أن «تركيا فتحت أبوابها للمهاجرين، أما الدول الأوروبية فلم يكن لديها رحمة ولا عدالة معهم، بل ديكتاتورية فقط». الأرجح أن ما سبق لم يكن وحده ما ساهم في اتساع الهوّة بين أنقرة والعائلة الأوروبية، فقد مثَّلت معضلة اللاجئين شوكة في خاصرة العلاقة، وأدت إلى تشويه الصورة الذهنية للأتراك في أوروبا بعد تصاعد الاحتقان حول اتفاق اللاجئين الذي أنجزه الطرفان في آذار (مارس) الماضي. ودخلت العلاقة مناخ الشك مع الاتحاد الأوروبي بسبب التهديدات التي أطلقها أردوغان في وجه بروكسيل، والتفكير في إلغاء اتفاقية وقف الهجرة الموقّعة في آذار الماضي، الأمر الذي دفع الاتحاد إلى التفكير في بدائل، ووقف المساعدات المالية التي تبلغ 6 بلايين يورو والتي تعهد الاتحاد منحها إلى تركيا، خصوصاً بعد استقالة داود أوغلو الذي يعتبر مهندس الاتفاقية. وكانت المفوضية الأوروبية رأت أن تركيا لم تطبق بعد كل معايير التأشيرات ال 72 التي تتراوح بين إصدار جوازات سفر بيومترية واحترام حقوق الإنسان، ما يعني أن موافقتها مشروطة بتطبيق أنقرة هذه المعايير. وكان التوتر بين أنقرة والاتحاد الأوروبي وصل إلى الذروة في 12 أيار (مايو) الجاري، بعدما شن عدد كبير من النواب في البرلمان الأوروبي هجوماً شديداً على مشروع إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة دخول «شنغن» إلى الأراضي الأوروبية، واصفين إياه بأنه «خضوع من الاتحاد الأوروبي لديكتاتور يمارس الابتزاز»، في إشارة إلى فرض أردوغان عدداً من الشروط على أوروبا مقابل تنفيذ تعهداته بمنع تدفق اللاجئين إليها. صحيح أن أنقرة أصدرت مرسوماً حكومياً ينص على إعفاء المواطنين الأوروبيين من تأشيرات دخول بمن فيهم القبارصة، إلا أن رد الفعل الأوروبي على هذه الخطوة جاء فاتراً من وجهة نظر تركيا. إذ وعدت المفوضية باقتراح مشروع قانون لإدراج تركيا على قائمة الدول المعفية من تأشيرات الدخول للزيارات القصيرة (أقصاها 90 يوماً) في فضاء «شنغن» في إطار عائلي والزيارات السياحية أو زيارات العمل. وأمام التردد الأوروبي في شأن إلغاء تأشيرة دخول المواطنين الأتراك، ورفض قطاع معتبر من القوى الحزبية الأوروبية، خصوصاً أحزاب اليمين إلغاء تأشيرة دخول الأتراك، باعتباره خياراً يفتقد المسؤولية الأمنية، ويمثل رضوخاً لسلطة ديكتاتورية. بل أن بعضهم مثل الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، الشقيق الأصغر للحزب المسيحي الديموقراطي الحاكم في ألمانيا، طالب بوقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي نهائياً. لذلك، لم يكن غريباً تهديد الرئيس التركي بإلغاء اتفاقية المهاجرين الموقعة مع الاتحاد الأوروبي. وقال في خطاب له في نيسان (أبريل) الماضي في أنقرة: «هناك شروط محددة. إذا لم يتخذ الاتحاد الأوروبي الخطوات الضرورية ولم يلتزم تعهداته، فإن تركيا لن تنفذ الاتفاق». وأضاف: «تلقينا وعوداً، لكن لم ينفذ أي شيء حتى الآن»، لافتاً إلى أن ثلاثة ملايين شخص يتلقون مساعدات غذائية؛ «على حساب موازنتنا». ويراهن أردوغان على تمرير الاتفاق لتحسين الصورة الذهنية لحزب «العدالة والتنمية» الذي فقد جزءاً معتبراً من رصيده الشعبي، وفق نسبة التصويت التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وكانت الحكومة التركية قد وعدت مواطنيها بإعفائهم من تأشيرة «شنغن» في حزيران (يونيو) المقبل، وتراجع الاتحاد الأوروبي يضع الرئيس وحزب «العدالة والتنمية» في مأزق قد تكون تداعياته سلبية على نظام الحكم الساعي إلى استعادة قاعدته الجماهيرية لتمرير تحويل مجرى النظام السياسي إلى رئاسي، والذي يواجه معارضة قوية. القصد أن ورقة المهاجرين إضافة إلى ضغوط أخرى قد تعيد صوغ العلاقة بين تركيا والكيان الأوروبي، الذي على رغم تثمينه الدور التركي في مواجهة الهجرة غير الشرعية، فإن بعض القادة الأوروبيين والقوى السياسية في البرلمان الأوروبي ما زال يشكك فى الاعتماد على الأتراك، وبعضهم يرفض منح الثقة إلى أردوغان الذي ينحرف نحو السلطوية. صحيح أن أنغيلا مركل حاولت تلطيف الأجواء مع أنقرة التي ضاق صدرها بالتردُّد الأوروبي حيال إعفاء مواطنيها من تأشيرة «شنغن» واستكمال مسار مفاوضات اللحاق بالقطار الأوروبي، إلا أنها تعتقد أن أنقرة لم تفِ بكامل الإجراءات كي تنال الإعفاء، فمن بين 72 بنداً لم تنفذ أنقرة سوى 35 بنداً. في هذا السياق العام، يبدو إعفاء الأتراك من تأشيرة «شنغن» أو اللحاق بالعائلة الأوروبية بعيداً، فإضافة إلى التردد الأوروبي في فتح الباب واسعاً أمام تركيا لدخول أوروبا، ثمة شكوك لدى الاتحاد في حجم التقاليد والموروثات الدينية التي يبدي أردوغان اهتماماً بها. وبدا ذلك في تصريحات لرئيس البرلمان إسماعيل كهرمان بضرورة أسلمة الدستور التركي، فضلاً عن مشاريع مديرية الشؤون الدينية التركية لبناء مساجد داخل أكثر من 80 جامعة، ناهيك عن صعود الجدل حول هوية تركيا كشفت عنه مؤشرات عدة، منها عودة تحفيز الدروس الدينية، والعودة إلى تدريس اللغة العثمانية. * كاتب مصري