تروي هيرتا موللر،الحائزة على جائزة نوبل للآداب 2009 والمولودة في رومانيا 1953، روايتها «أرجوحة النفس»، (هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، كلمة، 2009، ترجمة: وحيد نادر)، على لسان بطلها ليوبولد أوبيرغ، الذي يكون بين ضحايا دخول الجيش السوفياتي إلى رومانيا صيف 1944. اعتقل الديكتاتور أنكونيسكو وأعدم، لتستسلم رومانيا مباغتة ألمانيا النازية، حليفتها إلى ذلك الحين، بإعلانها الحرب عليها، وبعدها بعام طلب السوفيات باسم ستالين من الحكومة الرومانية تقديم كلّ الألمان الذين يعيشون على الأراضي الرومانيّة للمساعدة في «إعادة بناء» الاتّحاد السوفياتي الذي دمّرته الحرب. وهكذا تمّ سوق الرجال والنساء بين السابعة عشرة والخامسة والأربعين من العمر للعمل الشاقّ في معسكرات العمل الإجباري. يعتقل ليوبولد أوبيرغ ضمن حشدٍ من القرية نفسها، يرحّل إلى منطقة نائية في الاتّحاد السوفياتيّ، ليعمل في معسكرٍ مغلقٍ، يعاني فيه أقسى أنواع الظلم والتعذيب، يعمل في عدد من الأعمال التي كان السوفيات يترفّعون عن العمل بها، ما يبقيه على قيد الحياة، إرادته القويّة، ورغبته المتعاظمة في الحياة، وتحدّيه وعناده، يتسلّح بمقولة جدّته التي كانت أقرب إلى النبوءة، أو الرغبة المطلقة، إذ قالت له حين اعتقاله إنّه سيعود لا محالة، وكان أوبيرغ يستمدّ من تلك المقولة العزم والتصميم ليستمرّ في الحياة، ويكسب مبرّراً لوجوده. يسرد أوبيرغ تفاصيل حياته وحياة رفاقه في المعسكر، ومنهم ترودي بيلكان، أرتور بريكوليتش، بياتريس تساكل، الحلّاق أوسوالد إنييتر، كونراد فونّ، ألبيرت جيون، كارلي هارمن، المحامي باول غاست وزوجته هايدرن غاست، وغيرهم، تكون لكلّ واحد منهم قصّة مأسويّة، تتقاطع تلك القصص في فضاء المعسكر الذي يتحكّم فيه الجنود السوفيات وعلى رأسهم برتول الذي كان يستغلّهم لتحقيق الكثير من منافعه الشخصيّة. يحكي كيف أنّهم كانوا يعاملونهم معاملة سيّئة، على رغم كلّ ما كانوا يقومون به، كما يسرد بساطة وسهولة قتل المعتقلين والتخلّص منهم، من دون أن يكلّف أحد من المسؤولين نفسه مشقّة السؤال عن أسباب القتل التي كانت التبريرات جاهزة لها، أبسطها، محاولة الفرار، أو عدم التقيّد بالتعليمات، عندما يموت أحدهم يقول رئيس العمّال مواسياً: يا خسارة، ثمّ يطلب العودة إلى العمل فوراً. يتحدّث أوبيرغ عن كثير من الأمور التي قد تبدو بسيطة وهامشيّة، وغير مسترعية الانتباه في الحياة اليوميّة، في حين كانت تشكّل كوارث بالنسبة للمعتقلين في المعسكر، يفصّل في الحديث المتشعّب عنها، كالإسمنت مثلاً، عن تركيبته، تأثيراته المرئيّة واللامرئيّة، وكيف أنّه كان يغدو سبباً في البقاء أو القتل، حيث كانت تنمو الريبة وسوء الظنّ ليصبحا أعلى من كلّ جدار، يشكّ كلّ واحدٍ بالآخر في كآبة الورشة. كان الصراخ يحتقر كلّ واحد منهم، الإسمنت يخدع وورشة البناء تخون، وكان لكلّ يوم جوعه الأعمى، لكنّ المعتقلين لا يستطيعون أكل الإسمنت، أو الرمل، أو البلوك، أو الخشب، أو أيّة مادّة أخرى من موادّ البناء. كما يذكر بكثير من المرارة المؤلمة واليأس المضني، رغبته الملحّة في الإقبال على الموت، حين كان يزاحم ليقف في الصفّ الأماميّ أثناء القتل العشوائيّ، ليكون أوّل الضحايا، ويرتاح من ذاك الأسر المهين القاتل. تركّز موللر في روايتها على الجوع بمختلف تصنيفاته وتفرّعاته، تصوّر وحشيّته حين يستبدّ بالإنسان، تصوّر كيف أنّه يخرّب أنّى يتسلّل، وكيف أنّه يخلّف الإنسان أنقاض إنسان، حين يجد المرء نفسه مضطرّاً إلى اللجوء إلى الأساليب الملتوية كلّها، من سرقة ومبادلة وتحايل وغيرها، كي يتمكّن من تأمين لقمةٍ تقيه الموت جوعاً. تلطّف موللر من كارثيّة الجوع، حين تتحدّث عن ملاك الجوع، كأنّها باختيار ملاك للجوع، تُضفي على الجوع مسحة طيّبة خيّرة، لكنّها في الصميم، تظهر شيطانيّة ذاك الملاك الذي لا يعرف الرحمة. تخصّص أكثر من فصل للحديث عن الجوع بإطلاق، كيف أنّ الجوع يغدو وحشاً متغوّلاً يفترس ضحاياه، ولا يأبه لاستغاثاتهم، لأنّه يكون مضطرّاً إلى إرواء جوعه النهم الذي يستحيل أن يرتوي. لم يكن الجوع ليسكن، لأنّه كان يبقى متجوّلاً متعاظماً يوماً بيومٍ. يتجسّد كلّ شيء، يتلبّس الكائنات، يحرّك، أعمى يُعمي، يعشّش، يضلّل، يحقّر، يتملّك، يجلس مثل كلب يتربّص بالقادمين، يراقب حركات ضحاياه، يتعمّق في تأذيتهم، يتركهم أنصاف موتى، يرتحل عبرهم وفي داخلهم، يخرّب الأسس، يأكل ويُؤكَل، يدفع إلى ارتكاب الجرائم، ولا ينقاد لأيّة محاولة للالتفاف عليه أو المناورة ضدّه، لأنّه لا يتأجّل بل هو دائم التأجّج، لا يمكن التحايل عليه باختلاق الذكريات، لأنّه يدفع الأجساد إلى خيانة أصحابها. يتنوّع ويتشظّى، لا يبقى حكراً على الجسديّ فقط، تغدو له تفرّعات كثيرة، يتماهى مع الحنين إلى الوطن، يتماهى مع الذكرى والشوق، ينفرد بروائحه الخاصّة، تغدو له كينونته المستقلّة، يُملي تعاليمه على الجائعين، أسهلها أنّه لا يجوز التحدّث مع جائع، لأنّه سيصغي إليك بجوعه المجنون، لا بعقله... يكون الجوع موجوداً أبداً، ولأنّه موجود أبداً فإنّه يأتي حين يريد وكيفما يريد. إنّ قانون السببيّة من صنع ملاك الجوع. فهو يأتي بقوّة عندما يأتي. لا يجوز للإنسان أن يتكلّم عن الجوع حين يكون هذا الإنسان جائعاً. فالجوع ليس هيكل سرير، وإلّا لكانت له أبعاد. الجوع ليس شيئاً مادّيّاً. إنّه شيء موضوعيّ. «يسير ملاك الجوع وبعين مفتوحة متحيّزاً. إنّه يترنّح في دوائر ضيّقة ويتوازن على أرجوحة النفس». هو يعرف الحنين إلى الوطن في المخّ ويتعرّف إلى الأزقّة في الهواء. إلى جهة غير معروفة يسير بجوعه المفتوح اللامنتهي. إنّ الجوع فخّ قاتل بكلّ المعاني. يتحدّث أوبيرغ عمّا كان يجول في رأسه بعد مضيّ سنين في المعسكر، هل ما زال البقاء في المعسكر والعودة إلى الوطن نقيضين. وهو يسعى إلى تحقيق توافق في المعادلة العصيّة على الحلّ، يودّ أن يكون على قدرٍ من المسؤوليّة في الحالين، كلّما كان يحاول تقوية إرادته للعودة إلى الوطن، كانت تنهار تلك الإرادة لأسباب شتّى، فيحاول التأقلم مع المعسكر كوطن بديل لا بدّ منه. لأنّه لا مهرب منه. يستذكر بعد ستّين سنة من ذاك المعسكر الرهيب القاتل، كيف أنّ الإنسان عندما ينقطع لفترة طويلة عن أخبار وطنه وأهله، يسأل نفسه عمّا إذا كان فعلاً يريد العودة إلى الوطن، وعن المتبقّي الذي يرجوه من هناك، لأنّ المعسكر، يسرق رغباته، يأخذ الرغبة في التمنّي، ويُجبر المرء على ألّا يختار شيئاً، بل يجعله يرفض أن يُسأل عن خياراته... ثمّ يسرد حالته حين عودته إلى الوطن، وشعوره بالاغتراب بين أهله، يكون المعسكر قد سبى رغبة الحياة من داخله، وانتزع منه مستقبله. يروي الكثير من المفارقات المضحكة المبكية، حول تغيّر عاداته، ومَن حوله، كان يجتاحه بين الشبعانين دوار الحرّيّة، وأنّه ظلّ جائعاً طيلة عمره، حتّى حين كان يغالي في إشباع رغباته، لأنّ الجوع كان قد تغلغل وخرّب وشوّه بطريقة يستحيل إعادة بنائه أو ترميمه... كان يجد نفسه أن لا شيء يعنيه، لقد كان سجين نفسه ومنتزعاً منها مرميّاً إلى خارجها، ما عاد منتمياً لبيته وفي اللحظة ذاتها كان يفتقد ذاته. عاش الغريب القريب. ظلّ متأرجحاً بين التغرّب والتقرّب. تؤكّد موللر في الخاتمة، أنّ أمّها أيضاً كانت من بين المساقين إلى تلك المعسكرات لمدّة خمس سنوات، ولأنّ سوقها حينذاك يذكّر بماضي رومانيا الفاشيّ، فقد أصبح الموضوع كلّه محظوراً من التداول، ولم يكن الحديث يدور إلّا في أوساط معيّنة، أو بين الضحايا أنفسهم، كما تؤكّد أنّها استعانت بكثيرين ممّن كانوا قد رحّلوا إلى المعسكرات من أهالي قريتها، وسجّلت ملاحظاتها، لتكتب روايتها عن الأقلّية الألمانيّة التي عانت من الظلم الكثير على أيدي السوفيات... تقدّم هيرتا موللر في روايتها «أرجوحة النفس» عبر أربعة وستّين فصلاً، صورة متكاملة عن الجوع الناهب إنسانيّةَ الإنسان، تقدّم الجوع عبر نماذج قدّمت ضحايا على مذبحه الذي لا يعرف الرحمة، تدوّن تاريخاً حرص الرسميّون من كَتبة التاريخ على إقصائه وتهميشه وتناسيه. تصوّر، بكثير من الأسى، الكيفيّة التي كان يجرى بها تحطيم الإنسان وتدميره تحت ستار «إعادة بناء» الدولة «العظمى».