بايدن : لوس أنجلوس أصبحت أشبه ب «ساحة حرب» بسبب الحرائق    ايفان توني يدخل تاريخ دوري روشن برقم جديد    القبض على مقيم لترويجه (11,968) قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي بمكة المكرمة    «سلمان للإغاثة» يوزّع مواد إنسانية متنوعة في مدينة دوما بريف دمشق    ضمك يصعق الرائد بثنائية    رسميًا.. عدنان حمد يتولى تدريب العروبة    اتحاد القدم يختتم المرحلة الثانية من دورة الرخصة التدريبية الآسيوية "B"    جياد ميدان الدمام تتألق وتتأهل لأشواط أبطال بطل الميادين بالرياض    أمريكا تندد بتنصيب مادورو وتفرض عقوبات جديدة على فنزويلا    رئيس لبنان يطالب رئيس حكومة تصريف الأعمال بالاستمرار لحين تشكيل حكومة جديدة    بالشرقية .. جمعية الذوق العام تنظم مسيرة "اسلم وسلّم"    ملتقى الشعر السادس بجازان يختتم فعالياته ب 3 أمسيات شعرية    الشيخ طلال خواجي يحتفل بزواج ابن أخيه النقيب عز    ارتفاع أسعار النفط وخام برنت يتجاوز 80 دولاراً    «حرس الحدود» بعسير ينقذ طفلاً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    ثلاث أمسيات شعرية في ختام ملتقى أدبي جازان الشعري    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُقدم مزايا جديدة للمستوردين والمصدرين    مجموعة stc تمكّن المكفوفين من عيش أجواء كرة القدم خلال بطولة كأس السوبر الاسباني    أنشيلوتي يبدي إعجابه بالجماهير.. ومدرب مايوركا يعترف: واجهنا فريقًا كبيرًا        خطيب المسجد النبوي: تجنبوا الأحاديث الموضوعة والبدع المتعلقة بشهر رجب    "الزكاة والضريبة والجمارك" تُحبط محاولتي تهريب أكثر من 6 كيلوجرام من "الشبو"    شفيونتيك تكشف عن شعورها بالحرج خلال فترة إيقافها المؤقت بسبب المنشطات    لإنهاء حرب أوكرانيا.. ترمب يكشف عن لقاء قريب مع بوتين    فن الكسل محاربة التقاليع وتذوق سائر الفنون    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    «عباقرة التوحد»..    محافظ الطائف يستأنف جولاته ل«السيل والعطيف» ويطّلع على «التنموي والميقات»    الصداع مؤشر لحالات مرضية متعددة    5 طرق سهلة لحرق دهون البطن في الشتاء    الخروج مع الأصدقاء الطريق نحو عمر أطول وصحة أفضل    سوريا بعد الحرب: سبع خطوات نحو السلام والاستقرار    الحمار في السياسة والرياضة؟!    وزارة الثقافة تُطلق مسابقة «عدسة وحرفة»    كُن مرشدَ نفسك    ماذا بعد دورة الخليج؟    أسرار الجهاز الهضمي    الألعاب الشعبية.. تراث بنكهة الألفة والترفيه    المقدس البشري    جانب مظلم للعمل الرقمي يربط الموظف بعمله باستمرار    نجاح المرأة في قطاع خدمة العملاء يدفع الشركات لتوسيع أقسامها النسائية    الرياض تستضيف الاجتماع الوزاري الدولي الرابع للوزراء المعنيين بشؤون التعدين    جودة القرارات.. سر نجاح المنظمات!    لا تحرره عقداً فيؤذيك    سبب قيام مرتد عن الإسلام بعملية إرهابية    سالم ما سِلم    أفضل الوجبات الصحية في 2025    مركز إكثار وصون النمر العربي في العُلا يحصل على اعتماد دولي    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال8 لمساعدة الشعب السوري    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    ولي العهد عنوان المجد    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    أسرتا الربيعان والعقيلي تزفان محمد لعش الزوجية    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد الأشعري يجترح الفرح من الخسارة
نشر في الحياة يوم 17 - 06 - 2010

ثمة مقطع بليغ من قصيدة بعنوان «نقاء» في ديوان الشاعر المغربي محمّد الأشعري «يبابٌ لا يقتل أحداً» (دار النهضة العربية، 2010). وتتأتى البلاغة من القدرة على اختزال المعنى العام الذي يدور الديوان حوله. فالبلاغة إيجاز مثلما قالت العُرب: «ولكن فقط/ لتصبح الخسارة/ لؤلؤة صافية/ لا يفسدها شيء»، إذ تؤلّف الخسارة في أصلها موضوعاً شعرياً يعدّ من المواضيع الكبرى. فهي أخت رثاء الذات وانكسار البطولة، وهي تشفّ عن تبدّد الأوهام وتبخّر الأحلام وخيبة الأمل، وفيها نبرةٌ صافيةٌ من الندم والتحسّر على ما مضى وغاب، وهذه الشجون كلّها تفصح عن هشاشة الإنسان وضعفه، وتضعه عارياً في إهاب أدّق الفنون قدرةً على قول الروحِ والنفسِ؛ الشعر.
وللخسارة في ديوان محمّد الأشعري مسارب وأبواب؛ فمنها ما ينسكب أسىً على غياب المرأة. ومنها ما ينفتح حزناً على زمن مرّ عجلاً. فالمرء ينظر في ماضيه وحاضره مقارِناً مصير أحلامٍ بدأت بجناحين وانتهت عند محطة خيبة الأمل. ومنها ما يتأملّ الشعر ذاته ليجسّ نبضَ انكفائه في الحياة المعاصرة، بطريقةٍ توحي وكأنّ كتابة الشعر في حدّ ذاتها ضربٌ من الخسارة والعبث.
وعلى رغمّ هذا كلّه، فإن الفن الرفيع؛ الشعر، يجترح الفرح من خلال الخسارة حين كانت القصيدة تمتلك ما يكفي من المؤهلات التي تتيح للمعاني الوصول إلى قلب القارئ مباشرةً، فلمسُ الشغاف في أصله، مثل الهوى تماماً غلاب.
يكتب الأشعري قصيدته بلغةٍ بسيطةٍ متأنية، ويفتتح الديوان بالخسارة التي خلّفها غياب امرأة: «أكتب ما أتصوّره/ جديراً بغيابِك/... أقرأ ما أتصوّره معنىً لما كتبتُ/ لا أفهم كيف أكتب هذه الكلمات/ ربما هي الأخرى لا تفهمني/ ولا تفهم هذه السكينة/ التي تمنحها»، لتغدو الكتابة علاجاً لهذا الغياب، ودرباً لمحاسبة النفس من خلال تخيّل نهاية أخرى لن تتحقق، فالمستحيل واقف في المرصاد، مطمئِناً إلى سطوته التي يظهِرها التكرار: «كان عليّ أن أسبح في تلك القطعة/ ... كان عليّ أن أدخِلَ جبلاً في حبّة قمح/... كان عليّ أن أبوح لك بكل شيء/ ... كان عليّ أن أقنعك». والشاعر العاشق كان غافِلاً عن احتمال غياب حبيبته فجأةً، إذ دأبه كدأب العشّاق يرون في كلّ ما حولهم إشارات وعلامات تحتفي بالحبّ: «فالسماء ارتدت معطفاً أنيقاً... والقبلة التي كان/ يُفترض أن تقفل الباب/ انهمرت في وقتها»، فيسهون ولا ينتبهون إلا متأخرين: «لا شيء كان يبعث على الشك/ سوى أنك تركتِ ظلاً يمرّ/ من دون أن تتبعيه بعينيك».
وباب الانتباه المتأخر يسلّم الشاعر إلى باب آخر تخرج فيه «الأنا» من الهمّ الشخصي لتغدو أنا «عامّة» إن صحّ التعبير، تتيح للقارئ سواءٌ أكان مهجوراً من امرأة أم من شيءٍ مختلف، أن يرى نفسه في مرآة المعنى الواسع؛ الوقوف وجهاً لوجه تجاه العصيّ على التحقّق: «شيءٌ ما أحاول استرجاعه/ لا يطاوعني/ أحياناً يكون/ صوت امرأة/ وأحياناً... ودائماً يكون شيئاً لا يطاوعني». بيد أن خيار الشاعر في التخفّف من الشخصي عبر تحريك الحدود بين الخاصّ والعامّ لن يكون صارماً تماماً، وتفصح بعض الجمل عن بعدٍ مرتبطٍ بخسارة ضمن حلبة مختلفة: «وأنتِ سألتِ مرتاعةً/ لماذا تنبح الكلاب؟/ قلتُ لأن النجوم تضايقها/ قلتِ ربما تطارد أحداً/ أو ترى شخصاً يريد أن يقتلنا»... فالكلمات الآتية (مرتاعةً، تضايقها، تطاردُ، يقتلنا) تُظهرُ الخوف الذي يشفّ القمع من وراءه، فتتحدّد ملامح «الأنا»: أوليستْ الأنا العربية؟ لعلّها هي لا غيرها، تتضحّ أكثر في القسم الأخير من الديوان، ففي قصيدة جميلة بعنوان «شكوك مؤسفة» ينجح الأشعري في لمس الشغاف: «عندما انتابنا الخوف/ قلنا إنه ليس خوفنا/ ... عندما رأينا دمنا يمشي/ قلنا ليس دمنا/... وجلسنا تحت سقوف ثقيلة/نتأمّل مطراً يرقص فوق الماء/ قبل أن نستدير نحو بعضنا/ ونسأل/ في لحظةٍ واحدة/ من أنت؟».
ينوّع الأشعري أبواب الدخول إلى الشعر، فتقليب الخسارة في الحبّ من وجوهها المتعدّدة، يقابله تقليب من نوع مختلفٍ: قول المعنى ذاته مراراً ومراراً عبر طرقٍ مختلفة؛ كذا هو الأمر في قصيدة طويلة نسبياً بعنوان «شجرٌ يشبهني». فهذه القصيدة مؤلّفة من عشرة أغصان/ قصائد تدور كلّها في فلك تشبيه حداثيّ شهير: النساء شجر. فقد ارتقى هذا التشبيه بقلم الشاعر الكبير محمود درويش: «أقول كلاماً كثيراً عن الفارق الهشّ بين النساء وبين الشجرْ» (ديوان «ورد أقلّ»). ويستلهم الأشعري في ديوانه التشبيه ذاته ليعبرَ به الطريق ذاتها لمراتٍ عشر: «كلّما وضعتُ يدي/ على جذعها الضامر/ سقطت / بعض أوراقها/ ... كأنّها تستجيب/ لخريفٍ سري» أو: «ولم أمرّر يدي/ ولو لمرة واحدة/ على حرير ظلّها/ كنتُ لا أحبّ/ سوى أعوادها النحيلة». وليست المقارنة هنا في سبيل الاستئناس بالجمال الباذخ لقصائد درويش، بل هي تأتي في سياق ينشق عن أمرين؛ يقول الأوّل بالطي والنشر، فالتشبيه مطويٌ في قصيدة درويش ذات الشكل الواضح والقافية المتألقة المتلألئة، أمّا في قصيدة الأشعري فالنشرُ مذهبه، وربما يعود الأمر إلى خيطٍ سرديٍ خجول يتنقلُ من قصيدة / غصنٍ إلى أخرى، كي تؤلّف معاً قصيدة واحدة تسرد الحبّ من خلال الشجر. أمّا الأمر الثاني فملتبس، إذ إن السياق الماكر يقول إن نظرة النقد إلى الشعر الحديث تأثّرت حقاً بقصائد درويش وجمالها الخلاب، فالتفتتْ إلى تشبيهٍ يفضي الى كلمات طبعها درويش ببصمته الخاصّة «خريفٍ سري» و «حرير ظلها».
وربما كان القسم الأخير من الديوان هو الأجمل، ففيه أكثر من قصيدة تسائل كتابة الشعر، من خلال وصف الطريق إلى القصيدة: «أكتب في العتمة/ أتخيل بياض الصفحة» أو: «كلّما فكرتُ بالكلمات/ انفتحت أبواب دار مهجورة» أو: «لماذا لا أترك القصيدة/ كما هي بالفعل/ حب وتبن/ وأكوام عالية/ من النوايا». أو التأمّل في كأسها: «وها هي الكلمات تلمع/ في سطور مستقيمة/ كأنها أحذية يلبسها الشعر لأوّل مرة». أو الأسى بسبب انكسارها البطولي في عصرٍ سريع: «وعليها أن تواجه في أناقة صامتة/ كلمات بدينة تنظر إليها من طرفٍ خفي/ وتقول ساخرةً/ كل هذا اللمعان/ من أجل ماذا؟». بيد أن الخسارة لا تداني كتابة الشعر مهما ومهما تسارع العصر، لأن الشاعر لا يتوب عن جماله، ولا ينخدع بقول من يرى الشعر زائداً غير ضروري: «ليس سوى لعب/ هذه الكلمات التي/ نبذرها في الريح... ليس سوى لعب/ هذه اللذة/ التي نقطفها/ من جمل طائشة/ ليس سوى لعب/ هذا الألم»، بل ينهي قصيدته بالإصرار على الاستمرار: «فإذا مضى القطار في غفلة منه/ فإنه سيجلس في الأريكة المقابلة/ ونستأنف اللعب».
فهذا الإصرار أقرب إلى تعويذةٍ سحريةٍ تُبعد الخسارة عن كتابة الشعر، وكيف لا؟ والديوان تزيّنه قصيدة «سقوط قديم»، المستندة إلى ثلاثٍ لا فكاك من سحرهنّ؛ الحبيبة والكتابة والأندلس: «ها أنا أضعُ وجهك/ في بضع كلمات/ أسجّلها في ملفٍ جديد/ تحت عنوان/ سقوط غرناطة»، ومن الصحيح أن الرجع درويشيٌّ كما في هذا المقطع الجميل: «أفكرُ بك/ كما لو كنتُ/ أحارب في المربع الأخير/ على مرمى حجر/ من حديقةٍ أحبّها/ وأندلس أخسرها»، لكن للمغربي الحقّ في استعارة الاستعارة، فقد خبر الأندلس تحت جلده، واختبر طعم فقدها مرتين؛ في الحقيقة والمجاز: «فقدتُ لثغة الراء/ التي كان مفروضاً/ أن أوصلها/ إلى فاس». واستعارةُ الاستعارة أو استردادها ب «المجاز» تعينُ النقد على أن يضمّ هذه القصيدة إلى أخواتها من الأندلسيات الحداثيات الجميلات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.