والدي الحبيب لم أعهد فيك هذه القساوة. لقد طالت غيبتك، رحلت من دون أن تودعني، وقد مضت سنتان وأنا أنتظر، وسأنتظر ولن أملّ. أجلس الى النافذة أراقب لعلّي أراك داخلاً، ولكن... ألتفت الى والدتي مستفسراً ثم أرتمي في حضنها، فتعانقني، وتمسح على رأسي، وتقبلني وقد رطبت قبلاتها دموع الحزن والحسرة وتقول: لقد رحل والدك. اختاره الله الى جواره. هناك الحياة أفضل وأطهر وأسلم من هذه الدنيا التي لا تخلو من الأشرار الفاسدين. والدي، لماذا لم تأخذنا معك إذاً؟ فلطالما تمنت والدتي الرحيل ولله فيما يختار، وكانت تتضرع الى الله وتقول: إجعل يومي ويوم ولدي محمد يوماً واحداً: والدي الحبيب لقد اشتقت الى تلك الأمسيات وقد تحلقنا حولك كل مساء. والدتي جالسة صامتة حزينة. أخواتي سارة ونورة ولولوة وسلاف وأنا، نستمع الى حكايتك من الماضي البعيد وأحاديثك المشرقة التي لا تخلو من بعض الفكاهة. كنت لا أفقه شيئاً وإنما أشارك في الضحك أحياناً. كانت نظراتك تنتقل بيننا في تساؤل صامت لتستقر عليّ يصحبها دعاء: الله يصلحك يا محمد ويأخذ بيدك. في المرة الأخيرة التي زرتك فيها في المستشفى أتذكر أنني تقدمت بحذر لأقبّل يدك الباردة ورأسك، ولم تحرّك ساكناً ولم تفتح عينيك كالعادة وتبتسم وتلفّني بنظراتك الحنونة العطوفة. لماذا؟ كانت والدتي واخواتي ونعمان وبسام يبكون بحرقة. لماذا؟ لا أعرف. عدت الى البيت على أمل العودة... قضاء الله وقدره جعلاني طفلاً في صورة رجل لا قوة ولا حيلة لي. لا أعرف إلا الحب والعطف والحنان، عاجزاً عن حماية والدتي وأخواتي. أريد البكاء فالدموع تقهرني. أريد الكلام فالتعبير يخذلني. أريد الجري والبحث، طفولتي تعوقني. وأخيراً ألجأ الى صورتك وأكتفي بالنظر اليها. والدي، أرجو أن لا تنسانا، أدعُ لنا بالحماية من الأشرار، وبالستر والصحة. وأن يسخر لنا الشرفاء وأن يبعد عنا من باعوا ضمائرهم. فأنا أقصى ما أستطيع عمله، أن أقبّل رأس والدتي كل ليلة وقد نمت في حضنها كطفل لا يعرف الأمان والاستقرار إلا بقربها، وأردّد معها على أمل اللقاء الله يرحمك يا عبدالله ويغفر لك آمين.