في مؤتمر حزب العمال الاشتراكي- الديموقراطي لعموم روسيا عام 1903 حصل خلاف بين لينين ومارتوف حول عبارة لا تتجاوز نصف سطر تتعلق بشروط العضوية في الحزب. فوجئ الاثنان، وهما صديقان وفي حزب واحد ويعتنقان المبادئ الفكرية والسياسية نفسها، بحجم خلافاتهما حين اصطدما حول نصف سطر. على أساس ذلك، انقسم البلاشفة والمناشفة يومها، وهو انشقاق رسم معالم القرن العشرين لأنه كان المدخل إلى ثورة أكتوبر1917 التي وصفها الصحافي جون ريد بأنها «هزت العالم»: خلال أربعة عشر عاماً، اكتشف البلاشفة والمناشفة أن الخلاف حول نصف السطر ذاك هو ذروة جبل الجليد الذي يحوي تحته خلافات كامنة حول رؤية العالم وروسيا والماركسية وليس خلافاً تنظيمياً محضاً. في السياسة الأمور هكذا: الموقف السياسي يحوي رؤية كلية تضم كتكوين عناصر محددة بداخلها. يمكن تطبيق ذلك على الأزمة السورية البادئة من درعا في 18 آذار (مارس) 2011. في 25 شباط (فبراير) 2011، وعلى ايقاع توقّع تطورات سورية بقوة رياح ما حصل في مصر وتونس، أطلقت الأمانة العامة ل (إعلان دمشق) دعوة إلى «جميع قوى المعارضة على أمل اللقاء في لجنة وطنية للتنسيق من أجل التغيير تنسق المواقف وتخطط للنشاطات وتديرها». في 9 أيار (مايو) صيغت وثيقة بعنوان: «نحو ائتلاف عام للتغيير الوطني الديموقراطي». خلال شهر ونصف شهر، أجريت مفاوضات شملت جميع أطياف المعارضة بالداخل والخارج، أحزاباً وتجمعات ومستقلين، للوصول من خلال ذلك إلى «تجمع شامل للمعارضة أو هيئة تنسيق بين الجميع». فوجئ المعارضون السوريون بحجم خلافاتهم وبأن صدعها غير قابل للالتئام في لحظة سياسية يتم فيها حراك اجتماعي كبير ضد سلطة أصبحت في وضع دفاعي ضعيف، وفي لحظة ظن فيها الجميع منذ (درعا) أنه قد طويت خلافات المعارضة التي انقسم فيها (إعلان دمشق)، في 1 كانون الأول (ديسمبر) 2007، بين معسكرين: مراهنون على الخارج لإحداث تغيير داخلي (الإسلاميون والليبراليون واليمين الكردي) وخط وطني ديموقراطي تمت تسميته بين 2008 و2010 ب (الخط الثالث) والذي ضم (الناصريين والماركسيين واليسار الكردي)، تمييزاً له عن خطّي السلطة ومن بقي في (إعلان دمشق). منذ (درعا) وعلى مدار ثلاثة أشهر، لم يعد الخلاف بين المعارضين السوريين حول (دور الخارج في التغيير السوري) أسوة بالتجربة العراقية ضد صدام حسين، بل كان، مع مراهنة الجميع على داخل بدأ يتحرك، انطلاقاً من عناوين جديدة: (تغيير) و (إسقاط النظام). في نص (إعلان دمشق) في 25 شباط كان هناك استخدام لمصطلح (التغيير) الذي اعتبر جذرياً عند تشكيل (الإعلان) عام 2005 وعودة إلى لغة المعارضة السورية في «التجمع الوطني الديموقراطي» عام 1980 قبل تخلّي «التجمُّع» عن ذلك وتبنيه «الإصلاح» عام 1989. عند تأسيس «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديموقراطي» وضح، وعلى رغم أن المفاوضات شملت الجميع على وثيقة (9 أيار 2011)، بأن انقسام (1 كانون الأول 2007) عاد يرخي بثقله مع تأسيس «الهيئة» في 25 حزيران (يونيو) 2011 وعبر الاصطفاف نفسه ولكن تحت عناوين جديدة. «موقف التغيير» كان يتكون من العناصر التالية: 1- الحوار مع السلطة إن تم تأمين بيئة مناسبة للحوار. 2– انتقال السلطة عبر اتفاق للتسوية بين النظام والمعارضة لإقامة سلطة انتقالية من أجل قيادة التغيير نحو وضع ديموقراطي يتجاوز الأوضاع القائمة. في الجانب الثاني كان اتجاه إسقاط النظام يرفض هذين العنصرين عند أصحاب النزعة التغييرية ويتجه إلى محاولة تكرار ما حصل قبل أشهر مع زين العابدين بن علي وحسني ومبارك في تونسوالقاهرة عبر استثمار «الحراك المعارض»، هذا الاستثمار الذي اجتمع عليه «التغييريون» و «الإسقاطيون» ولكن، لهدفين مختلفين. عندما وضح، بحدود نهاية تموز (يوليو) 2011، أن «الحراك» لم يستطع أن يحقق في دمشق ما حصل في القاهرةوتونس عاد «الإسقاطيون» إلى نزعتهم القديمة في المراهنة على الاستعانة بالخارج، متشجعين بسقوط القذافي في 23 آب (أغسطس) 2011 من باب العزيزية في طرابلس الغرب عبر قوة «الناتو» ومتقوين بدعوة باراك أوباما للرئيس السوري ب «أن يتنحى» يوم 18 آب وبالقطيعة التي قامت بها أنقرة مع دمشق خلال شهر آب. هنا أصبح «إسقاط النظام» يضم في مكوناته «المراهنة على الخارج» بوصف الثاني وسيلة لتحقيق الأول، ثم في شهر أيلول أصبح «العنف المسلح المعارض» ثالثهما. في الأسبوع الأول من أيلول مع محادثات مدينة الدوحة بين «هيئة التنسيق» و «إعلان دمشق» و «الإخوان المسلمون» كان موضوعا «التدخل الخارجي» و «العنف» سبباً في فشل المحادثات ومن ثم اتجاه «الإخوان:» و «الإعلان» إلى تشكيل «المجلس الوطني» في اسطنبول في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2011. هذا الخلاف تحت عنواني «تغيير النظام» و «إسقاط النظام» قاد إلى انقسام المعارضة السورية خلال فترة 2011- 2015: تجسّد ذلك عملياً في فشل اتفاق 30 كانون الأول 2011 بين «الهيئة» و «المجلس» بالقاهرة ثم في فشل مؤتمر القاهرة للمعارضة السورية في 2 و3 تموز 2012 ثم في تأييد «الهيئة» بيان جنيف 1 (30 حزيران 2012 ) وفي رفض «المجلس» له وهو ما استمر مع خليفته منذ 11/11/2012: «الائتلاف» الذي استمر على هذا الرفض حتى قبل أربعة أيام من انعقاد (جنيف 2) في 22 كانون الثاني 2014. مع بروز اتجاه أميركي- روسي منذ اتفاق موسكو في 7 أيار 2013 نحو تطبيق تسوية بيان جنيف1 أصبحت «التسوية» هي العنوان الآخر الخطي ضد خط «إسقاط النظام» في اصطفافات المعارضة السورية. تعزّز هذا مع القرار 2118 الصادر في 27 أيلول 2013، على خلفية «اتفاق الكيماوي السوري» بين كيري ولافروف وهو الذي كان طريقاً إلى «جنيف2». كان التدويل مرادفاً للتسوية السورية وهو قطارها ومقطورتها بعد أن عجز السوريون عن تحقيق ذلك عام 2011 ثم مع فشل التعريب مع مبادرتي الجامعة العربية (2 تشرين الثاني/ نوفمبر- 22 كانون الثاني/ يناير 2012). لذلك حين استبعدت «هيئة التنسيق» من «جنيف2» رفضت إغراءات «المفاوضات الموازية» التي قدمت في نهاية كانون الثاني 2014 من أحد سفراء دول «مجموعة البريكس» ورفضت عرضاً لحكومة مشتركة مع السلطة، مراهنة بدلاً من ذلك على أنها رقم لا يمكن تجاوزه في خريطة المعارضة السورية، وساعية عبر سلسلة تفاهمات مع قوى معارضة مختلفة لتقوية موقع «الهيئة» أمام «الائتلاف». ساهم فشل «جنيف2» بسبب نشوب الأزمة الأوكرانية في شباط 2014 في تسهيل هذه المهمة أمام «الهيئة». عندما انتصر خط «التسوية» في «الائتلاف»، بدأ الأخير في التلاقي مع «الهيئة» في القاهرة- كانون الأول 2014 وفي باريس- شباط 2015 وفي بروكسيل- تموز 2015 ثم في مؤتمر الرياض في كانون الأول 2015 عندما دُعيا بوصفهما كيانين سياسيين ودُعي المعارضون السوريون الباقون، مدنيين وعسكريين، بوصفهم أفراداً. ترك هيثم مناع هيئة التنسيق بسبب معارضته لقاء باريس، وقد كانت محاولته عبر مؤتمري (القاهرة 1- كانون الثاني 2015) و (القاهرة 2- حزيران 2015)، بالتعاون مع قوى في «الائتلاف» مثل أحمد الجربا، هي من أجل تشكيل قوة جديدة على أنقاض «الهيئة» و «الائتلاف»، فيما ترك صالح مسلم «الهيئة» بسبب استبعاده من مؤتمر الرياض بفعل واشنطنوأنقرة مع إغماض عيني موسكو. كان مؤتمر الرياض طريقاً إجبارياً إلى «جنيف3» تم تحديده في «فيينا» ولولا مؤتمر الرياض، ما كان القرار 2254 ليصدر: منذ ذلك المؤتمر في العاصمة السعودية هناك اصطفافات جديدة كامنة في المعارضة السورية: كل من هو ضد مؤتمر الرياض داخل هيئة التنسيق، أو على جوانبها وتخومها، هو ليس صلباً في تطبيق بيان جنيف1 ويقبل بتفسير مائع له هو أقرب إلى تفسير السلطة، خصوصاً موضوع «هيئة الحكم الانتقالية ذات الصلاحيات التنفيذية الكاملة» ولا مانع لديه من «مفاوضات موازية» تتم في شكل منفرد خارج «جنيف3» في دمشق أو غيرها تقود إلى «جنيف سوري» محض أو برعاية دولية - إقليمية، فيما يلاحظ أن هؤلاء ضد «زواج الضرورة» بين «الهيئة» و «الائتلاف». في «الائتلاف» هناك استقطاب ضد مفاعيل «الرياض» و «جنيف») تأتي من قوى وشخصيات ما زالت رافضة لتسوية «بيان جنيف1»، وهي رغم عدم معارضتها بل مشاركتها في كليهما ما زالت تراهن على أن «الائتلاف» له حصرية تمثيل المعارضة السورية وهي تسعى في «جنيف3» عبر التصلّب إلى تفشيله، في مراهنة على رئيس أميركي جديد، سواء كان ديموقراطياً أم جمهورياً، يقلب الطاولة على موسكو وطهران ودمشق في مرحلة ما بعد 20 كانون الثاني 2017 عندما يغادر باراك أوباما البيت الأبيض. * كاتب سوري