المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «المرأة السعودية».. كفاءة في العمل ومناصب قيادية عليا    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    رسالة إنسانية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"رجلنا في بغداد": ما وراء الاندفاع ... مستقبل «الصحوات» والانسحاب الأميركي (5)
نشر في الحياة يوم 04 - 06 - 2010

 نشرت «الحياة» على أربع حلقات فصولًا من كتاب الصحافي الأميركي جون لي أندرسون «رجلنا في بغداد» الذي يتناول فيه بعض خفايا الاحتلال الأميركي للعراق ومحاولات الجانبين العراقي والأميركي إعادة ترتيب الوضعين السياسي والأمني في البلد، في ظروف شديدة التعقيد والصعوبة.
تناولت الفصول أدوار شخصيات محورية في فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين والأحداث التي واجهتها والمساعي الداخلية والخارجية لتطويق أخطار الحرب الأهلية.
يصدر الكتاب باللغة العربية قريباً عن مؤسسة «شرق غرب للنشر- ديوان المسار». هنا حلقة خامسة وأخيرة.
تقع محطة (ثرشر) الأمنية المشتركة في ضواحي غرب بغداد في منطقة الغزالية داخل قصر من عهد صدام بأعمدته التي بطول عشرين قدماً ونافورته الجافة الآن. يبدو هذا القصر الآن مثل قطعة كعك، لكن بطبقات من الإسمنت والحجر، ويحيط بالقصر ودارين آخرين جدران عازلة. وأنشئت هذه المحطة الأمنية كجزء من اندفاع القطعات التي تم تشكيلها من قبل الجنرال ديفيد بيترايوس القائد الأميركي في العراق. إن تحريك الوحدات إلى خارج القواعد الكبيرة وإلى داخل المحطات الأمنية المشتركة – وهي مخافر صغيرة في أخطر مناطق بغداد – يعد أمراً مهماً بالنسبة إلى استراتيجية مقاومة الإرهاب، كما أن ثرشر تعتبر الآن مكاناً آمناً للجنود الأميركيين والجنود العراقيين. وفي هذا الخريف وعلى سطح القصر وبين أكياس الرمل وساريات الاتصالات ومعدات الحماية ومن طريق مظلة القناص، أشار النقيب جون بروكس آمر المحطة إلى بعض المعالم الأرضية المحلية. وقال مشيراً إلى منطقة حشائش قريبة: «لقد تم انتخاب هذا الموقع لأنه كان المكان الرئيس الذي ترمى فيه الجثث في الغزالية. كانت هناك قرابة إحدى عشرة جثة في الأسبوع تم تشويه غالبيتها في شكل وحشي».
كان جامع «أم المعارك» الكبير بمجموع مآذنه المميزة التي تشبه صواريخ سكود قريباً من المكان. لقد اختفى صدام حسين في الغزالية خلال القصف الأميركي في حرب الخليج الأولى وبنى جامعاً تعبيراً عن امتنانه للمنطقة المجاورة («فلا يزال في الغزالية الكثير من عسكريي صدام المتقاعدين» كما قال بروكس). وفي نيسان (ابريل) 2004 اتخذ المسلحون الجرحى الذين شاركوا في معركة الفلوجة ملاذاً لهم في الجامع. وتحاذي الغزالية الحافة الشرقية لمحافظة الأنبار التي هي مركز الحركة المسلحة السنّية التي أصبحت البوابة الاستراتيجية لبغداد لدخول المسلحين والمجاهدين الأجانب. وفي زيارة سابقة للغزالية في كانون الأول (ديسمبر) 2003 التقيت بمسلحين في بيت آمن في منطقة مجاورة. لقد أخبروني أنهم كانوا ينوون قتل الأميركيين. ومنذ ذلك الحين مع استثناءات قليلة كانت الغزالية منطقة محرمة على الغربيين لا سيّما الصحافيّين الذين يخاطرون باحتمال خطفهم وقتلهم. كما أن الدوريات الأميركية في الغزالية عادة ما تتعرض إلى الكمائن.
يبلغ النقيب بروكس في الثامنة والعشرين من العمر، وهو بقامة متوسطة وبجسم مشدود وشعر قهوائي قصير. وأشار من السطح إلى المكان الذي تم فيه قتل العريف (روبرت ثرشر) من قبل قناص في شباط (فبراير) الماضي وقد سميت المحطة باسمه. في ذلك الحين كانت السرية تعمل خارج معسكر «فيكتوري»، وهو القاعدة الرئيسة التي تضم رقعة كبيرة من بغداد بما في ذلك المطار. لقد كان (ثرشر) في الثالثة والعشرين وانضم إلى الجيش من الثانوية.
على رغم تأثير الحركة المسلحة إلا أن الغزالية بقيت على ما كانت عليه منذ عقود – منطقة طبقة وسطى في بغداد كبحت فيها التوترات الطائفية في شكل أو في آخر مقارنة بأجزاء أخرى في بغداد. غالبية الساكنين في تلك المنطقة كانت من السنّة، لكن كما قال بروكس: «كان هناك أصحاب مهن ومثقفون من السنّة والشيعة أيضاً وكانت الجوامع لكلتا الطائفتين». وقد تغير ذلك في شباط 2006 عندما فجّر المسلحون السنّة الحضرة العسكرية التي تعود إلى القرن التاسع في سامراء والتي تعد واحدة من أقدس الأضرحة بالنسبة إلى الشيعة، فنشب عنف طائفي عبر العراق. فالمسلحون الشيعة ومن بينهم جيش المهدي تحركوا إلى الغزالية من الشعلة وهي منطقة شيعية فقيرة مجاورة تقع إلى الشمال من الغزالية. وردّ السنّة على ذلك بتحولهم إلى المسلحين المتشددين وإلى المجاهدين الأجانب من تنظيم القاعدة في بلاد وادي الرافدين الذين تدعوهم القوات الأميركية بالقاعدة في العراق.
قال النقيب بروكس: «لديك متطرّفون سنّة في المنطقة قبل سامراء على رغم أن القاعدة في العراق بعد سامراء أصبحت قوية. فلديهم فرق الموت الخاصة بهم. وكانوا يختارون الناس في شكل منتظم بسبب مواقع بيوتهم أو علاقاتهم. وكانوا يعذبونهم في شكل وحشي ويقتلونهم ويدفنون جثثهم. لذا هربت العوائل الشيعية والعديد من السنّة ممن لديهم الإمكانات المادية من هذه المناطق. وفي بداية هذه السنة كانت الغزالية تحت السيطرة الفعلية للقاعدة في بلاد وادي الرافدين. كما أنها كانت تتعرض لهجوم المسلحين الشيعة». وقال النقيب بروكس في معرض إشارته إلى العبوات الناسفة التي تسببت في مقتل غالبية الجنود الأميركيين في العراق: «إن عشرين دولاراً وبطاقة شحن للهاتف النقال يمكن أن تدفعها لأحدهم ليضع لك عبوة ناسفة. وقد أدرك الناس أنهم قد أدخلوا شيئاً لم يعد بوسعهم السيطرة عليه».
في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي وبعد أن قبل استقالة وزير دفاعه دونالد رامسفيلد أعطى الرئيس بوش لفريق حربه الجديد المكوّن من وزير الدفاع روبرت غيتس والجنرال بتريوس فرصة تغيير الاستراتيجية في العراق، وفي آذار (مارس) بدأ الاندفاع.
وتطلبت الخطة زيادة ثلاثين ألف جندي إضافي في بغداد ما جعل العدد الفعلي يزداد إلى قرابة خمسين ألفاً. وأنشئت 34 محطة أمنية مشتركة في بغداد، ثلاث منها في الغزالية: الأولى باسم (كازينو) شمال الغزالية، والأخرى في الجنوب الغربي هي محطة (ثرشر)، والأخيرة تم افتتاحها في أيار الماضي باسم (مافريك) وهي في الجنوب الشرقي.
وأشار بروكس إلى بيت كبير بشبابيك مكسورة عند الجزء الأسفل. ورجاله يدعونه ب (البيت العلبة) المدور لأنهم حين تحركوا أول مرة أطلق القناصة النار عليهم من الداخل. فردوا على ذلك بقصف البيت بمدافع الدبابات. وقال: «لم تطلق علينا النار بعد ذلك». لقد بدأ رجال بروكس بالعمل المكثف من طريق الأفراد للقيام بدوريات منتظمة أثناء النهار والقيام بمداهمات تعرضية أثناء الليل. ومع هذا الاندفاع أصبح الجنود الأميركيون في حضور دائم في المنطقة المجاورة. وبعدما تحرك الرجال أقام الجيش الأميركي جداراً إسمنتياً بطول ثلاثة كيلومترات في الغزالية لفصل السكان الشيعة عن السنّة أولاً، ولغرض إقامة محيط عازل. وقال بروك إن نجاح وحدته قد أصبح ممكناً من قبل زملائه في محطة (كازينو) الأمنية الذين فصلوا المسلحين الشيعة من مدينة الشعلة عن المناطق المجاورة.
في أواسط الصيف خفّ العنف في الغزالية. وفي الخريف حين وقفت على سطح محطة (ثرشر) في الليل كان بوسعي أن أرى الانفجارات في البعيد وكتل النار في السماء ليلاً. في إحدى الأمسيات هزّ انفجار عنيف البناية أعقبه إطلاق نار من أسلحة أوتوماتيكية أضاءت الشوارع مباشرةً. إلا أن غالبية التفجيرات كانت بعيدة من الغزالية بحيث لم يتسنَّ سماعها. وتضاءل عدد رمي الجثث في المناطق المجاورة إلى «الصفر عملياً قياساً بمستويات ما قبل سامراء» كما قال بروكس. ولم تخسر سريته أي عدد من الرجال بعد ذلك. وحين تحدث بيترايوس أمام الكونغرس في أيلول (سبتمبر) اختتم حديثه بالإشارة إلى الغزالية كمثال على التقدم الذي أحرزه الجيش في العراق.
كما أن الاستراتيجية الجديدة كانت تعني كذلك إعداد الأساس للقوات الأمنية العراقية لتحل محل الأميركيين، كما أن جميع المحطات الأمنية المشتركة وفق ما تشير أسماؤها تشمل قوات مشتركة من الأميركيين والعراقيين. إلا أن العراقيين لا ينتمون جميعاً إلى القوات الحكومية الرسمية. فمع الدعم الأميركي كان بضعة آلاف من المتطوعين السنّة المسلحين ممّن يدعون بحماية الغزالية يقومون بواجبات الشرطة بالتدريج. ومثل هذه القوات السنّية التي وافق الأميركيون عليها كانت قد بدأت بالانتشار والظهور في كل مكان. وقد انضم إلى العديد منهم المسلحون السابقون استياءً من الشيعة. وقد أخبرني أحد المسؤولين في أحد الأحزاب الشيعية الكبيرة «أن بعض هذه الجماعات المسلحة كانت إلى حد يوم أمس قوات معادية تهاجم الحكومة العراقية وقوات التحالف وكل من له علاقة بالحكومة. لقد كانوا يعتبرون إرهابيين. فما الذي حصل؟». لقد كان سؤالاً غالباً ما سمعته في العراق.
يُعتبر العقيد جاي بي بيرتن رجلاً طيباً شديد البأس، وكان آمر لواء المشاة الأول (الخنجر) الذي يغطي جميع شمال غرب بغداد ولديه أربعَ عشرةَ محطة أمنية من ضمنها ثلاث في الغزالية. وقال العقيد بيرتن: «لقد بدأنا بسؤال أنفسنا السؤال الآتي: ما الذي يسهل دخول القاعدة إلى منطقة يقطنها أناس هم عرب علمانيون معتدلون؟». وقال إن الجواب كان الخوف من المسلحين الشيعة. ومضى العقيد بيرتن قائلاً: أعتقد أننا في مرحلة زيادة فرصة إعادة الناس الذين يريدون أن يكونوا جزءاً من الحل. ويتم ذلك بالتحدث إليهم، اللعنة، إن ذلك يشبه مدينة تالاهوما بولاية تينيسي حيث مسقط رأسي (تالاهوما معسكر عمل تأسس عام 1852 وكان لساكنيه دور كبير في الصراعات والمواجهات التي تفجرت خلال الحرب الأميركية الأهلية). إنه يشبه التمترس والجلوس في الرواق الخلفي واحتساء الشاي والإنصات إلى الصراصير والكلام، في الوقت نفسه، وهنا نحن نتحدث عن الإصغاء إلى الناس الذين سحبوا الزناد ضد القوات الأميركية؟ اللعنة، نعم، لأننا نحارب عدواً مركباً مشتركاً وهو: القاعدة».
قال بيرتن: «إن مهمة لوائه كانت إلحاق الهزيمة بالقاعدة وتفعيل عملية الانتقال إلى السلطات العراقية، وهذا هو الطيف الكامل من العمليات الذي يعني كل شيء من محاربة الإرهاب إلى تثبيت أنابيب الصرف الصحي». وقال بيرتن: سواء تم تحقيق ذلك أم لا، وما إذا كانت المكاسب ستبقى أم لا، فإن كل ذلك معلق بالتقدم السياسي نحو المصالحة الوطنية بين العراقيين. «نحن في نافذة ضيقة جداً ولدينا بعض القرارات المهمة ينبغي صنعها. أما أي طريق سيتخذه العراق فإن ذلك سيعتمد على ما نفعله».br /
ولا تعتبر الغزالية المنطقة الوحيدة في العراق التي تغير فيها هذا المنظر. فآخر مرة كنت في البلد، أي قبل عشرة أشهر، كان العنف على ما يبدو أمراً لا يمكن السيطرة عليه مع اختفاء أعداد كبيرة من الناس، وكان القتل يحدث في وضح النهار. وغالبية العراقيين الذين أعرفهم تحدثوا بحدة حول الكيفية التي يتحصن فيها الأميركيون والقادة العراقيون بينما تعم الفوضى حولهم. في شباط خطفت الاغتيالات الطائفية المتبادله حياة قرابة ثلاثة آلاف مدني عراقي. وفي شهر تشرين الأول (اكتوبر) هبط معدل القتلى إلى خمسمئة وثمانية وسبعين. وتماماً مثل أية إحصائية للجثث في العراق فإن هذه الأرقام كانت موضع جدل، إلا أن أحداً لم يناقش مسألة تضاؤل العنف في شكل كبير. كما أن موت الجنود الأميركيين قد تناقص في شكل كبير هو أيضاً من أقصى رقم في شهر أيار (مايو) بلغ مئة وستة وعشرين جندياً حين بدأ الاندفاع، إلى تسعة وعشرين في الشهر الأخير. في ذلك الحين على الأقل بدا الأمر كما لو أن الاندفاع قد أعطى ثماره.
كان الاندفاع في شكل ما عبارة عن حالة جراحة طبية طارئة. فبعض أسوأ الأحياء السنّية في بغداد مثل الغزالية والأعظمية والعامرية قد تم التعامل معها، لكن كثيراً من محافظة ديالى الممتدة من شمال شرق بغداد حتى الحدود الإيرانية وكذلك كركوك التي أصبحت معروفة بسبب مطالبة الأكراد بها لمواردها النفطية، فقد بقيتا ساحتين رهيبتين للمعارك. في التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول، وهو اليوم نفسه الذي وجدت فيه جثث مشوهة لأكثر من عشرين شخصاً خارج بعقوبة في محافظة ديالى، قتل انتحاري يقود دراجة ثمانية وعشرين شرطياً في المدينة. كما كان لا بد من وجود قوات أميركية مهمة في الأحياء الشيعية الفقيرة من بغداد ومدينة الصدر والشعلة التي يسيطر عليها المسلحون الشيعة. ويدعي العديد منهم أنهم أفراد في جيش المهدي بقيادة مقتدى الصدر الذي غالباً ما كانت خبرته السياسية واستخدامه التعبوي للعنف مصدراً دائماً للإرباك بالنسبة الى مخططي الحرب في وزارة الدفاع الأميركية. في الواقع يعزو المحللون الكثير من التقلص الأخير في موت المدنيين العراقيين ليس إلى الاندفاع بل إلى قرار مقتدى الصدر في شهر آب (أغسطس) بتوجيه أمر إلى جيش المهدي الذي يعتقد أنه المسؤول عن مقتل العديد من السنّة في الصراع الطائفي الشيعي - السنّي في بغداد وما حولها ب «تجميد» نشاطاته لستة أشهر. لقد كان الهدف الواضح للصدر هو تجنب أي تصعيد لمعركة بين جيش المهدي وميليشيا شيعية أخرى ولإعادة تأكيد سيطرته على رجاله. وتزامن الاندفاع كذلك مع ما يدعى بالصحوة السنّية، وهي عبارة عن قرار اتخذه رجال العشائر في الأنبار للتحالف مع الأميركيين لمحاربة القاعدة في بلاد الرافدين – وهو أمر لم يكن متوقعاً في خطة بترايوس. وانضم السنّة في مناطق أخرى إليهم، على رغم أن العديد لم يفعلوا ذلك. ولا تزال القاعدة في بلاد وادي الرافدين نشطة ولا يزال (العديد من) المجاهدين الأجانب باقياً في البلد. في الثالث عشر من أيلول اعتبر أبو ريشة، وهو زعيم عشائري سنّي تم اغتياله في ما بعد، كمحفز لهذا التحالف، وكان الرئيس بوش قد التقاه في الأنبار قبل أسبوع. لقد كان أبو ريشة شخصية مؤثرة وكارزمية، وعلى رغم أن شقيقه الأصغر قد حل محله إلا أن غالبية العراقيين الذين تحدثت معها رأت أن موته خسارة جسيمة، واستغربت كم سيعيش شقيقه بعده. ولا يزال هناك أمل في أن القاعدة قد يتم تحييدها، ما يعني إزاحة مظهر شرير واحد على الأقل من مظاهر الحرب المتعددة الأوجه.
حدود الاندفاع
إن اندماج مجموعة عوامل مثل الاندفاع والصحوة السنّية وتجميد الصدر جيشَه قد ساعد على استقرار المناطق الرئيسة الساخنة للعاصمة. ومن غير الواضح إن كان بالإمكان توسيع هذه المكاسب أو تعزيزها بقوات قليلة، إلا أنه بات من المؤكد أن زيادات أخرى وحدها لن تفوز بالحرب. كما أن إضافات في عديد القوات هو أمر غير مخطط له. فقد وعد الرئيس بوش بسحب العديد من القوات التي جيء بها لغرض الاندفاع. ويبدو أن مستقبل العراق في هذا الوقت هو رهن النسيان. ولعل أفضل شيء يمكن قوله هو أن الولايات المتحدة قد اشترت أو استعارت مجالاً صغيراً لتعمل عليه. لكن هناك ثمناً أكثر وضوحاً من الأثمان الأخرى.
وقبل أيام قليلة من إدلاء الجنرال بيترايوس بشهادته أمام الكونغرس التقيت مع الشيخ زيدان العوادي، وهو زعيم عشائري سنّي من الأنبار، وكانت آخر مرة رأيته فيها عام 2004 حيث كان ممتلئاً بالعداء للولايات المتحدة ولم يخفِ سراً في تعريف نفسه على أنه من «المقاومة»، وهو الوصف نفسه الذي وصف به المسلحين السنّة المتشددين. لقد كان الشيخ زيدان مطلوباً هارباً متهماً من قبل الأميركيين بكونه يدعم التمرد، وكان يعيش في منفى طوعي في الأردن. ولكن حين تحدثنا هذا الخريف في شقة في عمان أخبرني زيدان أنه التقى أخيراً مع مسؤولين من الاستخبارات والجيش الأميركي لأجل إجراء محادثات غير رسمية لأنه يوافق على ما يقوم به الأميركيون الآن، أي السماح لرجال العشائر من السنّة بالانخراط في سلك الشرطة.
سألت زيدان عن أي نوع من الصفقات كان قد طرحها في شأن الصحوة السنّية. قال: «إنها ليست صفقة لأن الناس أدركت أن مصيرنا مرتبط بالأميركيين ومصيرهم مرتبط بنا. ولو نجحوا في العراق فإن ذلك سيعتمد على الأنبار. وقد قلنا ذلك دائماً. وخسرنا وقتاً كثيراً وخسرنا أميركا، لكن الصحوة جاءت الآن وهي تحمل خيطاً في يدها. ولأول مرة يقوم الأميركيون بعمل صحيح». قال زيدان: «إن العشائر السنّية في الأنبار لم تعد بحاجة للانتقام الدموي من القوات الأميركية». وقال: «لقد أخذنا انتقامنا ونحن الذين جعلناهم يزحفون على بطونهم والآن نسمح لهم بالنهوض». وأضاف: «إن استقرت الأنبار فيجب علينا السيطرة على بغداد وسنقوم بذلك». ولا بد من أن يكون هناك قتال شديد قبل استعادة العاصمة من الشيعة كما قال. «وسيقوم أهل الأنبار بالتعهد بهذا التطهير. ففيما فشل العالم بأسره من القيام به فعلناه بين ليلة وضحاها. وبغداد ستكون أسهل».
يبدو أن الكثير من اللاعبين في العراق مثل زيدان قد أعدوا أنفسهم للمعركة القادمة. وبينما أصدر الشيعة تحذيرات حول نوايا السنّة مع الأميركيين إلا أن مجمل الحديث كان عن جيش المهدي وراعيته السيئة الصيت إيران التي اتهمها بترايوس بشن حرب بالنيابة في العراق. وكانت هناك إشارات إلى القاعدة كقوة مستنفذة.
قال العقيد بيرتن: «القاعدة هي أمر سهل مقاتلته نسبياً. فأنت تحاربهم فقط وتحول دون حصولهم على أي تقرب». لكن جيش المهدي كما قال «أصعب». وفي جميع الحسابات فإن جيش المهدي والميليشيات الشيعية الأخرى كانت قد اخترقت قوات الأمن العراقية وإن الحزب السياسي للصدر كان شريكاً متذبذباً في حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي التي يهيمن عليها الائتلاف الشيعي. وقال بيرتن: «لقد بدأنا بالتحقيق مع قوات الأمن العراقية وبدأنا نرصدهم ونرصد قادتهم وكذلك نرصد أفراد الحكومة العراقية». (وقد شملت حالة واحدة سيئة الصيت للتورط الرسمي بالقتال الطائفي وكيل وزير الصحة ومدير أمن وزراة الصحة. ففي شباط ألقي القبض على رجال شيعة وموالين لمقتدى الصدر بتهم تنظيم جرائم قتل لمئات السنّة في مستشفيات بغداد – بما في ذلك مرضى وأقاربهم وموظفو الصحة).
وبالإشارة إلى جيش المهدي كما تفعل غالبية الأميركيين قال بيرتن: «تحدثت مع بعض هؤلاء كما تعرف. ولدي الاتصال بالبريد الإلكتروني مع بعضهم. وأخبرني شيخ في الكاظمية أخيراً أني لو أطلقت سراح ثلاثة من أفراده فلن تكون هناك هجمات على القوات الأميركية» ورفع حاجبيه.
إن سيطرة السلطات الشيعية على الخدمات الحكومية كان يعني أن هناك مقداراً كبيراً من التمييز المؤسساتي ضد الجماعات السنّية. فمدينة الغزالية السنّية مثلاً تعاني من نقص كبير في الطاقة الكهربائية، وحين كنت هناك رأيت أن ساكنيها لا يتمتعون في الغالب إلا بساعتين في اليوم فقط من الكهرباء مقارنة بأربع ساعات في منطقة شيعية مجاورة. اتبع الأميركيون طرقاً متعددة من السياسة لتحسين هذا الوضع، إلا أنه لم يكن من السهل القيام بذلك. وقال بيرتن: «من ناحية الشيعة هناك الكثير من الأموال يتم تداولها والخدمات الأساسية جيدة حقاً. إلا أنها ليست كذلك في الجانب السنّي».
كانت الاستراتيجية الجديدة مثل غالبية الاستراتيجيات السابقة المستخدمة في العراق. فالعديد من السياسيين الشيعة في حكومة العراق كانوا غاضبين من قرار الولايات المتحدة عزل مناطق بغداد وتجنيد مجاميع من المتطوعين السنّة وتسليحهم من دون استشارتهم – ما يقلل من شأن سلطة حكومة الائتلاف الهشة التي يهيمن عليها الشيعة. وقد يكون ذلك جزءاً من الهدف. فالعراق مع مئة وسبعين ألفاً من القوات الأميركية على أرضه هو ليس بلداً ذا سيادة وإن الولايات المتحدة تستخدم قواتها العسكرية لصياغة المشهد السياسي العراقي. وبتقوية يد السنّة تكون الولايات المتحدة قد أجبرت حكومة المالكي على دمج سنّة أكثر في القوات الأمنية – وهي الخطوة الحقيقية نحو المصالحة الوطنية.
واحتمال وجود ندٍّ مساوٍ من الصحوة السنّية تعقد بسبب حبائك الأحزاب والميليشيات الشيعية السياسية، وإن ذلك يتطلب انقساماً ضمن المجتمع الشيعي – أي حرب أهلية ضمن الحرب الأهلية. كما أن إيران ستكون عاملاً كبيراً. فلو أخذنا بالاعتبار ادعاء الصلات الوثيقة للصدر مع المتشددين الإيرانيين وكذلك العداء المتزايد بين إيران والولايات المتحدة فسيستحيل التكهن بتحركاته المستقبلية. إن صراعاً خفياً في شكل كبير يدور بين إيران والولايات المتحدة. وقد تدخلت إيران في العراق من خلال الدعم المالي والعسكري لمجاميع الميليشيات الشيعية وفي شكل مباشر أكثر بإرسال الضباط والمسؤولين إلى هناك. لقد كان لزعماء الشيعة في العراق صلات قوية مع إيران منذ وقت بعيد، حيث عاش العديد منهم في المنفى في عهد صدام، وقد حاولوا ومعهم الأكراد ومن دون نجاح إيجاد تعاون أكبر بين إيران والولايات المتحدة حول قضية الأمن في العراق. وفي الوقت ذاته يشعر العديد من السنّة بعدم الثقة بأي تعامل مع إيران.
لقد طرح الشيخ زيدان رؤية عن كيفية تأثير الصراع قائلاً: «أعتقد أن أميركا ستكون قادرة على الشروع بحرب أهلية شيعية - شيعية في الجنوب – مع العرب الشيعة من العشائر تدعمهم الولايات المتحدة والشيعة الفرس تدعمهم إيران». وقال إن تلك ستكون مناسبة للأميركيين «لقطع رأس الحكومة الإيرانية وميليشياتها في العراق». ويمكن السنّة أن يقدموا المساعدة في هذا القتال كما أشار.
إن سيناريو زيدان يعتمد بمدى كبير على كيف سيختار الأميركيون والإيرانيون صياغة صراعهم المستمر من أجل النفوذ. إلا أن آراء زيدان يشاطره فيها العديد من أفراد المجتمع السنّي حيث لا تزال المواضع المتشددة تمسك بزمام الأمور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.