هل يتعين على النظام الجديد في العراق أن يعيد الجنسية الى اليهود الذين أسقطت عنهم بعد تأسيس دولة إسرائيل بموجب القانون رقم (1) لعام 1950 والقانون رقم (12) لعام 1951؟ سؤال يتكرر طرحه أو إثارته منذ إطاحة النظام البعثي في 2003، خصوصاً من قبل المعنيين مباشرة بالأمر، أي اليهود العراقيين أنفسهم. هؤلاء ليسوا قليلي العدد إذ تشير احصاءات حديثة الى أن عددهم (الأصليون منهم وأبناؤهم وأحفادهم) يبلغ حالياً في إسرائيل نحو 400 ألف وفي الولاياتالمتحدة 15 ألفاً وفي بريطانيا 6500. وقبل فترة قصيرة أعلنت جماعة من يهود كردستان في إسرائيل أن عددهم وصل الى 150 ألفاً من إجمالي عدد اليهود العراقيين. اللافت أن اليهود الذين هاجروا من مدن المناطق العربية في العراق يسمون أنفسهم يهوداً عراقيين، بينما الذين هاجروا من كردستان يسمون أنفسهم يهوداً كرداً. قبل أيام أعاد طرح هذا السؤال الخبير القانوني طارق حرب، الذي برز بعد 2003 ويتوكل أحياناً كمحام عن الحكومة العراقية، مشيراً الى وجود اشكالية قانونية تمنع تطبيق الدستور على اليهود على رغم انه ينص على الحق المطلق في استعادة الجنسية لكل عراقي أسقطت عنه في السابق. كيف؟ المادة 18 (ثانياً) من الدستور العراقي تعتبر عراقياً كل من ولد لأب عراقي أو لأم عراقية. وتوضح المادة نفسها (ثالثاً) انه يُحظر إسقاط الجنسية العراقية عن العراقي بالولادة لأي سبب من الأسباب، ويحق لمن أسقطت عنه طلب استعادتها. الدستور نص في هذه المادة نفسها على انها يجب أن تُنظم بقانون، وهو ما فعله مجلس النواب لاحقاً حين صادق على قانون الجنسية العراقية لعام 2006. وهنا اشكالية شمول اليهود المسقطة عنهم الجنسية بحق استعادتها. فالمادة 14 (ثانياً) من القانون تنص على الحق الدستوري في استعادة الجنسية للعراقي الذي فقدها بناء على طلبه أو طلب أولاده غير البالغين (في حينها) إذا عادوا الى العراق وأقاموا فيه سنة واحدة ويعتبرون عراقيين من تاريخ عودتهم. لكن الجملة التالية تحرم تحديداً اليهود بالقول: لا يستفيد من حكم هذا البند أولاد العراقيين الذين زالت عنهم الجنسية العراقية بموجب أحكام القانون رقم (1) لعام (1950) ورقم (12) لعام (1951). كذلك الأمر في المادة 18، إذ ينص في (أولاً) على أن لكل عراقي أسقطت عنه الجنسية لأسباب سياسية أو عنصرية أو طائفية أن يستردها بتقديم طلب بذلك، وفي حال وفاته يحق لأولاده الذين فقدوا الجنسية العراقية تبعاً لوالده أو والدتهم أن يتقدموا بطلب لاسترداد الجنسية العراقية. لكن هنا أيضاً تأتي (ثانياً) كي تناقض الحق المطلق الوارد في (أولاً)، وذلك بالقول: لا يستفيد من حكم البند (أولاً) من هذه المادة العراقي الذي زالت عنه الجنسية بموجب أحكام القانون رقم (1) لعام 1950 والقانون رقم (12) لعام 1951. طارق حرب أشار الى هذه الاشكالية موضحاً انه يعتبر الحق المطلق كما جاء في الدستور ينبغي أن يكون الفصل في هذا الأمر. لكن في هذه الحال يتعين على مجلس النواب أن يجري تعديلاً على قانون الجنسية من شأنه أن يلغي هذه القيود كي يرفع هذا الغبن عن اليهود. هذا ما يتعلق بالجوانب الدستورية والقانونية لهذه المسألة. لكن ماذا عن الجانب الأخلاقي ومبادئ التسامح والانفتاح ونبذ التمييز العنصري والديني والمذهبي والقومي، وكلها نص عليها الدستور والتزم بها باعتبارها أركاناً أساسية من حقوق الإنسان؟ استدراكاً تنبغي الإشادة بواضعي الدستور الذين لم تنقصهم الشجاعة لاعتماد الباب الثاني تحت عنوان «الحقوق والحريات» التي يمكن مقارنتها الى حد كبير بما جاء في دساتير دول عريقة في الديموقراطية. لكنهم مع ذلك لم يتصدوا لأفكار متطرفة، إسلامية وقومية عربية، علماً أن أصحاب هذه الأفكار تحديداً هم الذين ينبهون دائماً الى أن «المؤامرات الصهيونية» هي التي تسببت في هجرة اليهود من العراق، لكن من دون أن يقدموا تبريراً معقولاً لقرار الحكومة العراقية آنذاك إصدار قانون إسقاط الجنسية عن اليهود. ولعله بناء على هذا المنطق يجوز التساؤل: هل إن «مؤامرة صهيونية» كانت أيضاً وراء قرار مجلس النواب العراقي إصدار قانون للجنسية العراقية يستثني اليهود من حق استعادتها؟ نختم بالتذكير بأن الوجود اليهودي في العراق أقدم من ظهور الديانتين المسيحية والإسلامية فيه. فهم موجودون هناك منذ السبي الأول لليهود على أيدي الأشوريين في القرن السابع قبل الميلاد. وللتذكير أيضاً، فإن الحكم الإسلامي عندما جاء الى العراق في القرن السابع الميلادي تعامل مع اليهود بتسامح. في ذلك العهد أسس اليهود مدرستين كبيرتين، واحدة في مدينة سورا (محافظة النجف حالياً) والثانية في مدينة فوبديثا (الفلوجة حالياً). ولعل العهد العباسي يعتبر عصراً ذهبياً لليهود استمر فيه كذلك حتى الغزو المغولي. لكن الحكم العثماني عاد الى التسامح على رغم انه فرض الجزية عليهم باعتبارهم من أهل الكتاب. لكن ذلك لم يمنع استقرار أوضاعهم الى حد أن بغداد أصبحت مركز ثقل لليهود، دينياً وثقافياً واقتصادياً. وفي 1840 أسسوا المدرسة اليهودية الكبيرة، بيت زيلخا، لتخريج الحاخامات. في العراق المعاصر أصبحت غالبية اليهود مدينية خصوصاً في بغداد والبصرة والموصل، لكن أيضاً في السليمانية والحلة والناصرية والعمارة والديوانية والعزير والكفل واربيل وتكريت وحتى في النجف، إضافة الى بلدات وأرياف في كردستان. وكانوا جزءاً مهماً من الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية حتى أن الملك فيصل الأول عين في 1921 الشخصية اليهودية حسقيل ساسون أول وزير للمالية في حكومته. يقال ما سلف، وكله معروف وقد خاضت فيه كتب ودراسات موثقة عن دور اليهود في تاريخ العراق، كي يُطرح السؤال مجدداً: هل يحق للنظام العراقي الجديد أن يقدم أساساً أخلاقياً لنقض الحق الدستوري لمن يرغب من اليهود العراقيين في استعادة جنسيتهم؟