يرصد الكاتب البريطاني جيروم كيغان في كتابه «الثقافات الثلاث، العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانيات في القرن الحادي والعشرين» التحولات التي طرأت على هذه الأنواع الثلاثة في ضوء التطورات العلمية والتكنولوجية التي أنتجت ما بات يعرف بالعولمة، وانعكاسات هذه الثورة العلمية في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية، مستعيداً بعض المقاربات التاريخية التي كانت في قسم منها تهدف إلى إيجاد حد فاصل بين كل نوع من أنواع المعرفة هذه، اضافة إلى السجال الذي لم ينقطع حتى اليوم حول الناحية القيمية لأي فرع من هذه الفروع. في وقت بات مستحيلاً في الزمن الحاضر عدم رؤية التداخل العميق بين هذه الفروع وتأثير كل واحد منها على الآخر بأشكال متعددة. صدر الكتاب في سلسلة «عالم المعرفة» وبترجمة صديق محمد جوهر. يحاول الكاتب إقامة مقارنة بين هذه الثقافات الثلاث من خلال تحديد عدد من المجالات. بالنسبة للاهتمامات الرئيسة، يقوم علماء الطبيعة بتفسير كل الظواهر الطبيعية والسعي إلى التنبؤ بالمسار المستقبلي لتطور الحياة ولما يتوقع أن تواجهه البشرية في المدى المنظور والبعيد. يعتمد علماء الطبيعة في هذا المجال على المختبرات والتجارب العيانية والمشاهدات ذات الطبيعة المادية. فيما يهتم المتخصصون في العلوم الاجتماعية بتفسير السلوك البشري، والتعمق في دراسة الحالات النفسية التي تزداد في ظل تعقيد الحياة البشرية في كل مكان وما يتركه ذلك من أمراض عصبية، وفي هذا المجال تركز العلوم الاجتماعية على أنواع السلوك التي تتحكم بالمجموعات البشرية، وتعتمد على تقارير ودراسات وأبحاث، ومقابلات شفهية، وترصد التطورات البيولوجية وأثرها في السلوك الإنساني. يقدم علماء الإنسانيات أنفسهم في وصفهم أعلى ترجمة لطروحات العلوم الطبيعية والاجتماعية، وذلك لكونهم يرصدون ويعبرون عن ردود أفعال البشر على الأحداث الجارية ودلالة الوقائع والأحداث التاريخية الجارية، من خلال النصوص المكتوبة في علوم التاريخ والأدب والشعر والأديان وغيرها من المجالات التي لا تخضع لمقاييس علمية صارمة على غرار ما هو جار في كل من العلوم الطبيعة والاجتماعية. تحتل المصطلحات الأساسية المستخدمة في كل فرع من الفروع الثلاثة موقعاً مهماً لدى العاملين في هذه المجالات. فالعلوم الطبيعية تشدد على استخدام المفاهيم اللغوية والرياضية المستقاة من واقع المشاهدات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية، والدقة في تعيين المصطلح وميدان ترجمته مسألة لا تحتمل التأويل، فللعلم لغته الصارمة. تحاول العلوم الاجتماعية تبني مفردات لغوية اقرب إلى التحديد العلمي لقياس سلوكات الأفراد والجماعات البشرية ورصد أحوالها والمقومات النفسية التي تحصل في سياق الممارسة الحياتية. لكن العلوم الاجتماعية، وعلى رغم ادعاءات تحقيق حد ما من النجاح في هذا الميدان، إلا أنها تعترف بتعقيد المسائل بالنظر إلى أن السلوك البشري يتأثر بعوامل متعددة لا يمكن تفسيرها كما يمكن أن يفسر العلم مسائل فيزيائية أو متصلة بحركة الكون والكواكب وغيرها. أما علماء الإنسانيات فيتقاطعون مع علماء الاجتماع في رصد السلوك البشري والمواقف التي تحرك الأفراد والجماعات في علاقتها مع الأحداث، لكن هؤلاء العلماء يتحفظون بشدة على الاستنتاجات ذات الطابع العلمي الصارم التي يحاول علماء الاجتماع أن يعطونها لأبحاثهم حول السلوك البشري. يعتبر الجانب الأخلاقي واحداً من السياقات المهمة في رصد تعاطي كل مجال من المجالات المدروسة ورد الفعل عليها. لا تضع العلوم الطبيعية القيم الأخلاقية في اهتماماتها خلال البحث في المختبرات العلمية، ولا تولي أهمية لما تتركه الاختبارات والاكتشافات العلمية من أثر في مجمل القيم الأخلاقية وما يتفرع عنها حتى من قضايا تتصل بمنظومة الأفكار الدينية السائدة. خلال العقود الأخيرة، بلغ تطور علوم البيولوجيا حدوداً تعتبر سابقة خصوصاً في ميدان علوم الجينات، بما فيها الاندفاع نحو إنتاج كائنات حية. ويرفض العلماء في هذا المجال التضييق على حرية أبحاثهم تحت حجة النتائج السلبية التي قد تترتب على اكتشافاتهم. يختلف الأمر بالنسبة إلى علماء الاجتماع، الذين يرون علاقة وثيقة بين جملة اختراعات واكتشافات علمية وبين تأثيراتها الاجتماعية والأخلاقية. فإذا كان علم الاجتماع قد أفاد كثيراً من علوم البيولوجيا في ميدان التحليل النفسي ومعالجة الحالات العصبية، إلا ان علم الاجتماع يتوقف طويلاً أمام النتائج الأخلاقية لعلم البيولوجيا عندما يطاول الأمر المس بثوابت موروثة تتصل بالإنسان والخلق والتكوين البشري، بما يقوّض الكثير من المفاهيم والأسس التي قامت عليها البشرية. يصر علماء الاجتماع على أن الحياة البشرية لا تستطيع السير وفق المعادلات الرياضية أو الفيزيائية، فهي بحاجة إلى مكونات روحية وثقافية تكسر حدة الصرامة العلمية وتعطي للحياة الإنسانية أبعاداً نفسية مختلفة. أما بالنسبة لعلماء الإنسانيات، فيبدو الأمر اكثر تعقيداً، فالأخلاق لا تدرس هنا في وصفها فرعاً مستقلاً على غرار ما تقوم به العلوم الاجتماعية، لكن الأخلاق تخترق مجمل العلوم الإنسانية، منها على شكل دروس مستقاة من التجارب التاريخية ومن علم التاريخ أيضاً، ومنها ما يدخل بشكل غير مباشر في ميادين الأدب والفن من قصة وشعر وسينما وغيرها من مصادر المعرفة. يبقى أخيراً التوقف أمام هذه الفروع الثلاثة وموقعها الاقتصادي. في هذا المجال تبدو المفارقة ضخمة جداً بين دور العلوم الطبيعية وسائر الفروع. تشكل الدراسات العلمية والاكتشافات مصدراً أساسياً في المردود الاقتصادي لأي بلد، عندما تستخدم هذه الاكتشافات في تطوير القطاعات الإنتاجية. ترصد الدول والشركات رؤوس أموال ضخمة في البحث العلمي، وتهتم هذه المؤسسات بنتائج هذه الأبحاث التي تطاول جوانب تزيد من المردود المالي لهذه الشركة أو تلك. يبدو المردود الاقتصادي ضعيفاً بالنسبة للعلوم الاجتماعية، فباستثناء ميادين قليلة جداً في الأبحاث السيكولوجية والمتصلة بعلوم البيولوجيا والتي باتت شركات متعددة توليها اهتماماً، فإن العلوم الاجتماعية لا تدر دخلاً، ولا تعتبر جاذبة لرؤوس الأموال. ينعدم المردود الاقتصادي بالكامل في ما خص العلوم الإنسانية، بل حتى المساعدات التي تقدمها الدولة أو المؤسسات المختصة لبعض مراكز البحث الاجتماعي، تكاد تنعدم لدى العاملين في العلوم الإنسانية، وهو أمر طبيعي بمنظار المنفعة المادية. لم يتوقف السجال حول الفروع العلمية الثلاثة منذ قرون حتى اليوم. من غير المفيد الانحياز لفرع دون آخر، فالثلاثة تتكامل وتتفاعل وتؤثر بعضها في بعض، وهي في عملها تنتج الحضارة البشرية والتقدم في كل بلد من البلدان.