تقدمت كثير من العلوم الطبيعية كالفيزياء والبيولوجيا والكيمياء وغيرها, ولكن ماذا عن العلوم الإنسانية، وتحديداً مجال السلوك الإنساني. لو جئت بفيزياء أرسطو لتقارنها بفيزياء اليوم وميكانيكا الكم والنسبية ستجد الفرق الهائل والمذهل الذي حدث في مجال العلوم الطبيعية، بل إن سقراط لو بعث اليوم من قبره فلن يستطيع أن يفهم صفحة واحدة من أبسط كتاب في علم البيولوجي أو التطور، ثم لن يجد صعوبة -أقصد سقراط- في الجلوس في ندوة تربوية في القرن ال 21 في مجال العلوم الإنسانية ليتبادل الأراء حول مفاهيم علم النفس والاجتماع. ألا يعد هذا دليلاً على أن العلوم الطبيعية قفزت قفزات هائلة، بينما تجد أن العلوم الإنسانية تتحرك مثل السلحفاة منذ 2500 سنة ولم تقدم الجديد في فهم الذات الإنسانية للدرجة التي تجعل سقراط لا يستوعب ندوة أو كتاباً في مجال العلوم الإنسانية. ترى ما سبب بطء التقدم في العلوم الإنسانية مقابل التطور الصاروخي في مجال العلوم الطبيبعة، هل البطء طبيعة ملازمة للعلوم الإنسانية، أم عجز الإنسان عن فهم ذاته؟ لمَ لم يطبق المنهج العلمي على سلوك الإنسان؟ كما هو معروف أن مبدأ العلية والسببية كان من أهم الأدوات التي استخدمت في تفسير سلوك الجمادات والأجرام السماوية والحيوانات والخلايا الحية, وأصبح التنبؤ بسلوك الطبيعة ليس بتلك الصعوبة مقارنة بالصعوبة التي نواجهها عند رصدنا للسلوك الإنساني محاولين تطبيق مبدأ العلية وبالتالي التنبؤ بسلوكه. هل سلوك الإنسان يمكن تفسيره أم هو شيء أولي غير قابل للتفسير؟ في العام 1965صاغ كارل بوبر الفكرة كالتالي «كيف يمكن لهذه الأشياء غير المادية كالغايات والتفكير الهادئ والخطط والنظريات والتوترات والقيم أن تلعب دوراً في إحداث تغيير مادي في العالم المادي». بالطبع سيبحث الإنسان عن منشأ هذه الأشياء غير المادية، من أين جاءت، وما هو المصدر الذي يولدها؟ وقد أجاب الإغريق بأن مصدر كل الانفعالات والمشاعر هو الآلهة أو الأرواح الشريرة. بالطبع هذه التفسيرات القديمة للسلوك والمشاعر غير المادية لم تعد مقبولة اليوم، في عصر العلوم والمنهج العلمي. بل إن الخبراء قد نزعوا للبحث عن الأسباب والخلفيات المادية لمنشأ السلوك، فالجنس البشري استقى تطوره من تأثير البيئة المادية, فعلى سبيل المثال لقد أدى التنافس المادي خلال مسيرة التطور البشري إلى بزوغ مشاعر عدوانية غير مادية أدت لنزاعات مادية، أي أن المشاعر الذهنية العدائية هي مرحلة وسيطة بين بيئتين ماديتين، الأولى هي السبب والثانية هي النتيجة، والمشاعر العدوانية ليست إلا نتيجة لخلفيات مادية وسبباً لأحداث مادية أيضاً، هذا على صعيد الجنس البشري. أما على صعيد حياة الفرد، فمن الممكن لعقوبة قاسية مادية أو توبيخ تلقاه منذ الصغر أن ينشيء لديه نوعاً من مشاعر القلق أو الخوف غير المادية تؤثر في بيئته المادية فتكون السلسلة كالتالي: عقوبة مادية منذ الصغر أدت لمشاعر قلق غير مادية بدورها أدت إلى التأثير في محيط الفرد المادي حتى يبلغ سن الشيخوخة. لم يلتفت لأهمية البيئة في صنع السلوك والمشاعر إلا قريباً وسبب تأخر البشرية عن دراسة البيئة هو أنها لم تحصل على البديل فكما أن للبيئة كان لها التأثير الأكبر في صياغة شكل الكائنات الحية خلال مسيرة التطور والاصطفاء الطبيعي كذلك دور البيئة في صياغة ذلك السلوك وتلك المشاعر، وعليه فكما أن الإنسان الأبيض أو الأسمر لم يكن لديهما الحرية في اختيار لونهما وكان للبيئة والانتخاب الطبيعي الدور الرئيسي في ذلك الاختيار، كذلك السلوك البشري ليس صنيعة الفرد أو الجماعات بل هو إفراز لتلك البيئات على الصعيد الطبيعي الفيزيولوجي أو الثقافي الاجتماعي. فالجدلية قائمة بين البيئة والسلوك الإنساني كجدلية تفاعلية وتفاعل تبادلي، فالسلوك ينتج من البيئة وهنا يكون السلوك منفعلا ومستجيبا لهذه البيئة كما بين العالم السيكولوجي بافلوف عن طريق نظرية المؤثر والاستجابة، ولكن الأمر قد يتطور خارج نطاق أن يكون السلوك مجرد استجابة سلبية للبيئة، بل يعود ذلك السلوك مرة أخرى للتأثير على البيئة وهنا يكون للسوك دور فاعل وإيجابي. طبعاً هذا الكلام قد يكون مخيباً للآمال بالنسبة للإنسانيين ودعاة الحرية والذين يعدون الإنسان حراً ومستقلاً ومسؤولاً عن أفعاله، لأن الاتجاه العلمي في تفسير السلوك الإنساني لا يرد الخير أو الشر للإنسان صاحب السلوك بل إلى البيئة وبالتالي عند الرغبة في تغيير السلوك السلبي يجب ابتداءً تغيير البيئة الحاضنة والولادة لذلك السلوك بدل الاتجاه للإنسان ذاته وتوبيخه وتقريعه وعقابه أو حتى مدحه لأفعاله الخيرة أو ذكائه. التفسير العلمي قد يوحي لك بأن الإنسان مسير في سلوكه ومشاعره ولكن يحمل في طياته ميزة كبيرة حيث بالإمكان حسب التطور التكنولوجي التلاعب في تلك البيئة سواء على الصعيد الفيسيولوجي العصبي والهرموني والجيني حيث تنبأ فرويد أن علم النفس الفيزيولوجي -أي ما بداخل الإنسان من هرمونات وأعصاب وغدد وإفرازات- سيفسر ما يجري بداخل الجهاز العقلي ومن ثم تفسير السلوك الإنساني، أو على الصعيد الثقافي والاجتماعي للتأثير على السلوك إيجاباً بعكس اعتبار أن الإنسان حر في اختيار سلوكه لأنه حينها سنكافئه ونمدحه حين يفعل خيراً وسنعاقبه حين يفعل شراً دون أن نغير شيئاً في سلوكه، وهذه النظرة غير العلمية للإنسان واعتباره حراً مستقلاً في سلوكه ومشاعره يجب أن تنتهي حتى يتم فهم الآليات والحيثيات التي تتحكم في السلوك وتوجهه ومن ثم التحكم فيها وتوجيهها وفق ما نراه في صالح الإنسانية.