لا تتوقف عجلة التاريخ عن الدوران كما لا تتوقف مسيرة العلم عن التطور. وإذا كانت حركة التاريخ قد أنتجت تطوراً في العلم، فإن تطور العلم قد دفع بعجلة التاريخ إلى التطور. وفى لحظات بعينها يبدو التاريخ وكأنه يعانق العلم على درب التقدم. حدث هذا خصوصاً في لحظات التحول الكبرى نحو الحداثة: مع اكتشاف النظام الفلكي الحديث المستند إلى مركزية الشمس حينما أثبت كوبرنيكوس (1543) وجاليليو (1642) أن الشمس وليست الأرض- كما رأى بطليموس- هي مركز الكون، فأضحت الأرض مجرد سيارة صغيرة من سيارات الشمس، وأيضاً عندما اكتشف نيوتن قوانين الجاذبية، واستطاع من خلالها أن يرسم صورة للكون، ولحركة الأجسام تتسم بالوضوح والثبات، ما كان كفيلاً بفتح كتاب الطبيعة على مصراعيه أمام العقل الإنساني. وبالذات عند اكتشاف نظرية «التطور» التي تراكمت معطياتها بجهد متواصل لكثيرين على رأسهم بوفون ولامارك ووالاس حتى ترسخت مع العالم الإنكليزي داروين الذي منحها صيغتها الرائجة، ووصلها بعالم الإنسان ما ترك اثره في العلم والفكر الإنسانيين من منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم. اعتراضان دفعت تلك العلاقة الوثيقة بين العلم والتاريخ إلى ادعاء تيار في الوعي الغربي برؤية وضعية «شاملة» للوجود تدور حول مفهوم التقدم، تستند إلى مركزية الإنسان في الكون، باعتباره سيداً أصيلاً له، وتحل بديلاً عن الرؤية «الإيمانية» للوجود، تلك التي تستند إلى مركزية الله في الكون، فيما ترى الإنسان مستخلفاً عليه. غير أن مفهوم التقدم لا يستطيع أن ينهض بمهمته هذه في تثبيت تلك الرؤية الشاملة للوجود إلا إذا كان هو نفسه شاملاً ومطرداً. شاملاً ليضم كل جوانب النشاط البشري: الروحي، والفكري، والأخلاقي، والسياسي، والمعرفي. ومطرداً أي قادراً على الاستمرار بلا توقف أو نهاية سواء لدى أمة من الأمم، أو في التاريخ العالمي كله؛ ذلك أن تعثر حركته في التاريخ إنما تحول دون صيرورته آلية للتفسير ومرجعاً للقياس وهما أمران ضروريان لابد من توافرهما لكل رؤية وجودية شاملة. وهنا يثور لدينا اعتراضان أساسيان: الاعتراض الأول يمكن وصفه ب «الداخلي» إذ يقع في قلب التقدم المادي نفسه، ويمثل قيداً أو حدوداً على اضطراده اللانهائي. فقد أثبتت الدراسات الكثيرة حول البيئة، بل والأفكار النقدية المضمنة في الخطاب الفكري حول العولمة وغيرها من مفردات الحوار حول ممكنات قيام مجتمع عالمي، عن محدودية البيئة الطبيعية من حيث قدرتها على استيعاب السلوكات الاستغلالية للنشاط البشري عموماً. وأيضاً محدودية المجتمعات الأقل تقدماً من حيث قدرتها على تحمل خطايا وأنانية المجتمعات الأكثر تقدماً ومن ثم الأكثر استغلالاً وتدميراً لهذه البيئة. وكذلك محدودية العقل الإنساني من حيث قدرته على التحكم في صيرورة تقدم مفرط وطويل المدى يحاصره في كل زاوية من زوايا حياته. وهذه المحدودية على الأصعدة الثلاثة تضع قيوداً على الحدود التي يمكن أن يصل إليها التقدم، والذي قام في نزعته المتفائلة على افتراض إن هذه الأصعدة قابلة للاستغلال والتحمل والتحكم بلا حدود، ما يعني أنها تسمح بتقدم لا نهائي. فعلى الصعيد الأول / البيئي تبين أن أخطاء التجارب العلمية في الماضي كانت تتم داخل دورات الطبيعة دون أن تتحدى قوانينها، ولذا كانت دورة الطبيعة تقوم بإصلاح الخلل عبر السنين. فالتلوث الذي كان يصيب منطقة ما كان يمكن أن يترك بضع سنوات حتى تقوم العوامل الطبيعية بإصلاح ما أفسدته يد الإنسان. بل إن التلوث الإشعاعي نفسه الذي قد يستمر لمدة 250 ألف سنة يظل رغم طول المدة داخل دورة الطبيعة. أما تجارب الهندسة الوراثية، فإنها قد تأتي بمخلوقات (حشرات - فيروسات) لا تستطيع دورة الطبيعة أن تتعامل معها، فهي تقع خارج نطاق حلقة التطور. وعلى الصعيد الثاني / المجتمعي يتضح أن الدول المتقدمة التي يشكل سكانها 20 في المئة من البشر يستهلكون 80 في المئة من المصادر الطبيعية، وهذا يعني أن ما يوجد من مصادر طبيعية لا يكفي لأن «يتقدم» بقية البشر ويصلوا إلى المعدلات الاستهلاكية نفسها، فإذا ما حدث هذا تم استهلاك هذه المصادر في مدى زمني محدود جداً، وأصبحت البشرية على حافة الإفلاس. وعلى الصعيد الثالث / الإنساني ربما كان الحديث حول محدودية العقل البشري لا يزال هادئاً ولكنه سوف يتصاعد بالضرورة إزاء ما تكشفه البيولوجيا الحديثة من محدودية الجهاز العصبي، وتزايد الضغوط التي يتعرض لها الإنسان المعاصر يومياً بفعل سطوة التكنولوجيا والإعلام وضغوط الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تنال من نمط حياته مباشرة، فيما يعجز كثيرون عن تغيير هذا النمط الذي يصير أكثر ارتباطاً بمجمل الدورة الكونية الشاملة السياسية والاقتصادية، ويصير معه الإنسان خاضعاً لمسارات وعمليات لا يمكنه التحكم فيها. وأما الاعتراض الثاني فخارجي، ينبع من طبيعة العلاقة الإشكالية بين التقدم المادي وبين التقدم الروحي، وبالأحرى بين التقدم الحضاري وبين الأخلاق الإنسانية، ومن ثم يشكك في شمولية مفهوم التقدم، وهنا يقع تباين بين تيارات أو مدارس عدة: فثمة تيار يذهب إلى أن الأخلاق الإنسانية نفسها لا تتأثر بالتقدم الحضاري وتغير البيئة الخارجية حولها، أي أنها لا تتقدم ولا تتأخر، استناداً إلى فهم يقول إن الطبيعة الإنسانية ثابتة جوهرياً. وربما كانت تلك رؤية رجعية إلى حد كبير، فالإنسان يتأثر في طبيعته وميوله بما حوله، وتتراكم تلك التأثيرات عبر الأجيال. ليس مهماً هنا أن تحدث طفرات جينية تقنن تلك الميول الجديدة بيولوجياً كما تشي الداروينية، مثلاً، أم لا تحدث، إذ يكفي تمركز هذه الميول في نظام كامل، محكم تقريباً، من التربية والتعليم والتثقيف، يتمتع بالانتشار العالمي الكافي، بحيث يتمكن من ترويجها على نطاق واسع، وتكريسها في أجيال متتالية. ويذهب تيار آخر إلى أن الأخلاق الإنسانية تتخلف بفعل التقدم العلمي والتكنولوجي المتنامي، وما يصاحبه من تحولات في الطبيعة الإنسانية، ودليلهم على ذلك هو تلك الحروب الكبرى التي فتكت ولا تزال بأرواح الملايين من البشر بفعل التطور الهائل في صناعة السلاح (60 مليون إنسان راحوا ضحايا للحرب العالمية الثانية وحدها، بينما كانت خسائر الحروب في العصور التقليدية لا تتجاوز المئات، أو الآلاف في أسوأ الأحوال حتى في الحروب في الإمبراطورية الكبرى)، ناهيك عن العنف السياسي المتزايد الذي يحصد أرواح الكثيرين منهم، والمظالم الاقتصادية التي تنمو بفعل تفاوت التقدم التكنولوجي بين الطبقات والمجتمعات، والتي ترهق أعصاب الناس وتفتك بأحلامهم. وأخيراً هناك تيار ثالث يذهب إلى أن الأخلاق الإنسانية تتقدم نحو الأفضل، مستدلاً على ذلك بنمو المثل الإنسانية الجديدة «العقلانية والتحررية، والفردية»، واستقرار المنظومات الحقوقية التي أعلت من وضع الإنسان وكرست احترامه باعتباره إنساناً، وليس لأي سبب آخر. كما عملت لتجريم فكرة الحرب وإلغاء حق الفتح الأمر الذي جعل أمن المجتمعات وسيادة الدول حقاً مكفولاً تحميه المنظمات الدولية، وتنظمه القوانين المرعية. خلط واضح لكن هذا الفهم يقوم على خلط واضح بين مفهوم الطبيعة الإنسانية، ومفهوم الأخلاقية الإنسانية، وعلى تجاهل لحقيقة أن تغير هذه لا يعني تغيير تلك؛ ذلك أن الطبيعة البشرية تتغير دومًا باتجاه أكثر تعقيداً وتركيباً، إذ يصير الإنسان، في العموم، أكثر معرفة وتدريباً في كل عصر عن سابقه، وربما حاز مستويات عيش تفوق آباءه وأجداده، وامتلك نمطاً للحياة أكثر عصرية قياساً إليهم. كما أنه بفعل نضج التاريخ كبنية حضارية صار قادراً على صوغ جوانب حياته في قوالب أكثر رقياً، غير أن ثمة فارقاً كبيراً بين تقدم هذا الطبيعة، وبين الأخلاقية الإنسانية المضمنة في سلوكات كالتعاطف مع الضعفاء والمعوزين، والبر بالصغار جداً أو الكبار جداً، والتفاعلات الاجتماعية الحميمة، والتواصل الإنساني الدافئ وغيرها من السلوكات التي طالما كشف الإنسان عن حاجته إليها، وكشفت الأديان عن قدرتها على الإلهام بها، والتي جعلت الحياة الاجتماعية ممكنة، بل دفعت الإنسان ليكون في شكل ما، كائناً اجتماعياً. لذا يمكن القول إن الإنسان الجديد لابد أن حياته صارت أكثر تنظيماً وعقلانية، ولكنها لن تكون بالضرورة أكثر فضيلة أو أخلاقية، إذ قد يدفعه التنظيم العقلاني الصارم وضيق الوقت المتزايد في الحياة الحديثة إلى نمو نوع من الأنانية وربما الاغتراب مع تزايد الاهتمام وتركزه حول الذات، إذ يكاد الإنسان الحديث في المجتمعات الأكثر تقدماً يتحول محوراً لنفسه ولفرديته المطلقة. بل أن تلك التغيرات التي صنعت الإنسان الجديد لا تضمن له تحقيق المزيد من السعادة، وإن كانت لا تدفعه بالضرورة إلى المزيد من التعاسة، فمع تقدم أنماط عيشه العقلاني نجده يزداد حرمانه من أنماط عيشه الفطري حيث كانت هناك أشياء جميلة وبسيطة وتلقائية على رأسها، مثلاً، مرحه الطفولي الساذج بين أحضان طبيعة غناء في غابة ربما قطعت أشجارها، واحتلت أراضيها الآن لإقامة مصنع جديد تم إنشاؤه لإنتاج الإسمنت أو الحديد اللذين من خلالهما يتم بناء مستعمرات جديدة تلعب دوراً أساسياً في نمط حياته العقلاني الجديد والصارم. وهنا يمكن الادعاء بأن تطور الطبيعة الإنسانية «كأنماط عيش» لم يضمن أبداً تطور الأخلاق الإنسانية «كقيم عيش»، بل يلاحظ أن منحنى التقدم المادي لا يتفق بالضرورة ومنحنى التقدم الأخلاقي أو المعنوي، فأعلى نسب الانتحار توجد في أكثر الدول تقدماً، والشيء نفسه ينطبق على الإباحية والمخدرات. وربما لوحظ أن معدلات إفراز العنف داخل المجتمعات تنخفض مع تزايد معدلات التقدم، غير أن مبررات ذلك تبقى عقلانية على سبيل الرشادة، وليست أخلاقية على سبيل الفضيلة. ولعل تلك الفجوة بين الأنماط/ الأشكال، وبين القيم/ الفضائل هي التي يعاني منها الإنسان الحديث، حيث يمنح التقدم المادي والتكنولوجي للإنسان قدرة كبيرة على الفعل تجعل طاقاته الشريرة فعالة بل وخطيرة جداً، ومن ثم تجعله في حاجة أشد إلى طاقاته الخيرة. كما يفرض التقدم المادي نفسه شعوراً مفرطاً بحقيقة التغير ويعمق من الشعور بالنسبية على كل الأصعدة وصولاً إلى ذلك الشعور القاتل بالعدمية أو العبثية، ما يزيد من حاجة الإنسان إلى اليقين. وفى هذا السياق يبقى مفهوم التقدم صالحاً كرؤية للتاريخ تنظم عمل الإنسان وتحفز اجتهاده الدائب لزيادة ممكناته وقدرته على الفعل، كما يصلح لقياس قدرة الإنسان على مراكمة خبراته وتغيير عالمه المادي إلى الأفضل، ولكنه يظل غير صالح كرؤية شاملة للوجود تظل في حاجة دائمة إلى مثل عليا وغايات متجاوزه تمنح الحضور الإنساني معنى متسامياً، وتجعله أكثر سيطرة على نزعات الشر والعبث الدفينة فيه، حيث يفرض التقدم المادي المتعاظم، والنمو المفرط للقوة التكنولوجية، حاجة إنسانية أكثر تعاظماً للتقدم الأخلاقي وأكثر عمقاً للمثل الدينية.