تتأمل أم محمد صورة ابنها البكر، حين كان لا يزال طفلاً، يرتدي «البشت» (المشلح)، لطالما تأملتها من قبل، وهي تمني نفسها أن تراه يرتدي مشلحاً مماثلاً، ولكن في ليلة زفافه. إلا أن ما حلمت به هذه الأم لن يتحقق، بعدما رحل محمد مع والده فؤاد منصور الممتن، وآخرين ضمن شهداء مسجد الرضا في الأحساء أول من أمس. في منزل عائلة الممتن في حي محاسن، الواقع بين مدينتي الهفوف والمبرز، يتناوب الصمت والبكاء على أروقته. في منزل العائلة يصمت الجميع فجأة، فترتفع أصوات تردد الشكر والحمد بأن «شرف الله هذه العائلة بشهيدين، ذهبا غدراً في محراب الصلاة، وليلتحقا بركب شهداء صلاة الجمعة ودور العبادة في القطيف، والدمام، وعسير، ونجران»، كما تقول إحدى نساء العائلة. ينظر حسين (ثماني سنوات) إلى باب المنزل، أمانيه معلقة بصوت الجرس، ليعلن وصول والده، الذي رافقه يوم الجمعة لأداء الصلاة في مسجد الحي. عاد حسين من المسجد، لكن والده وأخاه الأكبر محمد لم يعودا. ولكن الطفل لا يصدق كل الروايات التي سمعها بأنهما راحا ضحية رصاص الإرهاب الغادر. لم ينم حسين إلا ساعات قليلة في الليلة التي سبقت الحادثة، ليستيقظ صارخاً باكياً، قبل أن يحتضنه والده، فيهدأ الصغير. كانت «علاقة الأب بأبنائه الأربعة لا يمكن وصفها إلا بعلاقة الصديق بأصدقائه، فهم معه دائماً، والصلاة في المسجد تجمعهم كتفاً بكتف» بحسب القريبة. وكما في كل يوم جمعة، استعدوا للصلاة مبكراً، يمازح أحدهم الآخر، وخطواتهم نحو اللقاء الأخير ترسم خريطة جديدة لمسار حياة هذه الأسرة. وبعد الانتهاء من صلاة الظهر صافح الأب أبناءه، ودعا لهم بأن يتقبل الله صلاتهم وطاعتهم، وكأنه يودعهم، ويوصيهم بالصلاة خيراً. اصطف الخمسة لصلاة العصر، ومع أزيز الرصاص وانقطاع الكهرباء، اجتهد الأب في إخراج أبنائه من براثن الموت، واستطاع أن يهرب ثلاثة منهم: علي، وحسن، وحسين، مع من خرجوا من المسجد، وقبل أن يعود لابنه الأكبر محمد، كانت الرصاصة استقرت في رأس ولده من الخلف، ورصاصة أخرى سرقت حياة الأب. وقف الأطفال الثلاثة خارج المسجد، ينتظرون بلهفة خروج الأب والأخ، وأحاط الناس بهم، في محاولة لإبعادهم عن صورة الجثتين المسجاتين بجوار بعضهما. لكن الأطفال لم يصدقوا ما جرى، فالأمل يحدوهم بأن الموت لن يفرقهم عن أبيهم وأخيهم الأكبر. لكن سرعان ما زاد الانتظار وارتفع معه منسوب القلق. نقلت كاميرات هواتف مصلين صورة لجثتي الأب وابنه متجاورتين، الابن النائم بهدوء على وجهه، ولم يستطع جسده الصغير أن يبتعد عن جسد والده الحاني، حتى في الموت، وملامح الشهادة واضحة على محيا الأب الذي كان «بطلاً» في إنقاذ أطفاله، وخاف أن يغادر ابنه البكر الحياة، فأبى إلا أن يؤنسه في الحياة الأخرى.