حين تابعت كلام العقيد عبدالكريم النحلاوي في برنامج «شاهد على العصر» الذي تبثه قناة «الجزيرة»، سجلت الملاحظات التالية على إعادة فتح ملفات تحطيم دولة الوحدة المصرية - السورية، أو ما سمي بحركة الانفصال السورية التي كان النحلاوي أحد أبرز قيادييها: 1- أورد العقيد النحلاوي ما اعتبره «أخطاء ارتكبتها قيادة الوحدة في سورية». واتخذ من هذه الأخطاء ذريعة لتبرير انقلاب الانفصال في 28/9/1961. الأخطاء التي أوردها النحلاوي هي: أ - ضرب الديموقراطية وإلغاء التعددية السياسية، وإقامة نظام استخباراتي مارس أبشع أنواع القمع والتنكيل بحق الشعب السوري. ب - التسلط المصري على سورية والعمل على تمصيرها، وسيطرة المصريين من عسكريين ومدنيين على كل المراكز الحساسة في سورية، وارتكاب «المسيطرين» أشكال التجاوزات كافة. ج - إصدار قانون الإصلاح الزراعي في العام 1958 وقرارات التأميم في 23/7/1961 التي ألحقت الضرر بمصالح كبار الملاك والرأسماليين. 2 - الانقلابيون أصلاً هم تجمع «الضباط الشوام»، والرأس المخطط هو المقدم (يومذاك) عبدالكريم النحلاوي، وهم من ضباط الصف الثاني في الجيش الأول (كما أطلق على الجيش السوري زمن الوحدة) نظراً الى كون المراكز القيادية في هذا الجيش حكراً على الضباط المصريين. 3 - كان هدف الإنقلابيين في 28/9/1961 «الاشتراك في حكم سورية تحت قيادة المشير عبدالحكيم عامر» (وفقاً لما أورد أكرم الحوراني في ج=4 من مذكراته، (الصفحة 2914)، ووافقه النحلاوي في شهادته في «الجزيرة». فبعد مفاوضات صبيحة يوم الانقلاب بين الانقلابيين والمشير عبدالحكيم عامر، تم الاتفاق على ما يلي: أ - تشكيل قيادة الجيش الأول من الضباط السوريين فقط. ب - ترحيل الضباط المصريين الى القاهرة، وإعادة الضباط السوريين الى دمشق. ج - تعيين معاون لقائد الجيش الثاني (كما أُطلق على الجيش المصري أوان الوحدة)، كحال الجيش الأول الذي كان يفترض تعيين معاونه من الضباط المصريين. بعد الاتفاق وترحيل كبار الضباط المصريين الى القاهرة أصدر الانقلابيون البلاغ الرقم 9 وأبدوا تمسكهم ب «مقومات القومية العربية» ودفاعهم عنها، وبأنهم لا ينوون المس بما أحرزته من انتصارات، وكشفوا عرضهم «قضايا الجيش وأهدافه على... المشير عبدالحكيم عامر... الذي تفهم أمور الجيش على حقيقتها واتخذ الإجراءات المناسبة لمصلحة وحدة وقوة الجمهورية العربية المتحدة». لكن الفشل كان من نصيب هذا الاتفاق، نظراً الى رفض الرئيس جمال عبدالناصر الحاسم، لأنه، كما قال: يرفض القبول بالحلول الوسط والأخذ بأي تسوية، لأنها تشكل «مرحلة تكتيكية في الطريق الذي سار فيه التمرد». وهناك عامل آخر، اعتبره بعض المحللين ثانوياً، هو اعتراض بعض الضباط الانقلابيين على فحوى هذا الاتفاق. 4 - لم تكن الأسباب التي أوردها عبدالكريم النحلاوي لحصول الانقلاب إلا ذريعة لتحقيق هدفه المرحلي بمشاركة المشير عبدالحكيم عامر في حكم سورية ولاحقاً انفراده بمقاليد السلطة. وهناك من ذهب الى القول إن المشير عبدالحكيم عامر كان ضالعاً مع مدير مكتبه المقدم عبدالكريم النحلاوي في التخطيط للانقلاب بهدف التخلص من الضباط المصريين الكبار الموجودين في سورية والموالين لعبدالناصر، وهذا رأي أكرم الحوراني في مذكراته! متى بدأ العقيد عبدالكريم النحلاوي التخطيط للعملية الانقلابية؟ يكاد المطلعون يجمعون على أن بواكير تخطيط النحلاوي للانقلاب كانت في مطلع صيف 1961، إثر «قرارات التأميم» التي عارضتها الرأسمالية السورية، وإثر الخلاف الحاد بين المشير عبدالحكيم عامر والعقيد عبدالحميد السراج، وما استتبع ذلك من إرباك أجهزة الأمن السورية. أما توقيت التخطيط للحركة الانقلابية، فللفريق لؤي الأتاسي رأي مخالف أورده خلال محادثات الوحدة الثلاثية في نيسان (ابريل) 1963، إذ قال: «كان عبدالكريم النحلاوي، قبل الانفصال بسنتين يخطط للانفصال...». الجدير ذكره أن الانقلابيين خلال مفاوضاتهم مع المشير عبدالحكيم عامر، لم يتطرقوا الى أي موضوع سوى ما اتفق عليه مع المشير وتضمنه البلاغ الرقم (9)، غير أن المقدم هشام عبدربه تحدث عن مطلب «إلغاء القرارات الاشتراكية» الصادرة في 23/7/1961، لكن عبدالكريم النحلاوي صده بالقول، ووفقاً لروايته في «شاهد على العصر» إن هذا الموضوع ليس للبحث في الاجتماع. وبعد فشل اتفاق الانقلابيين مع المشير عبدالحكيم عامر وترحيله لاحقاً، صدر البلاغ الرقم (10) الذي كرس واقعياً انفصال سورية عن مصر، فوجد عبدالكريم النحلاوي نفسه أمام أحد الخيارين، إما تسلم السلطة في سورية والانفراد بها، أو تسليمها الى مدنيين، فعمل بالخيار الثاني، على أن يتربص بالمدنيين وينقض على السلطة متى رأى الظرف مواتياً، وفي اليوم التالي لانقلاب 28/9/1961 عهد الى مأمون الكزبري تشكيل الحكومة، ثم أجريت انتخابات مجلس نيابي تأسيسي وإقرار دستور لسورية، وانتخب ناظم القدسي رئيساً للجمهورية، وكلف معروف الدواليبي تشكيل الحكومة التي سعت الى تعديل قانوني الإصلاح الزراعي والتأميم بما يتوافق مع مصالح الملاك والرأسماليين، ولقي هذا المسعى تشجيعاً من عبدالكريم النحلاوي الذي وصف هذه القوانين في البلاغ الرقم (9) ب «قرارات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب». كان هذا التشجيع توريطاً للحكومة وإظهارها أمام العمال والفلاحين بأنها معادية لمصالحهم، وتستهدف مكاسبهم المحقة!! وليبرر الانقلاب عليها، وتالياً، الانفراد بحكم سورية، كما سعى لدى قيامه بانقلاب 28/3/1962 وفقاً لما أورده الفريق عبدالكريم زهر الدين في مذكراته، فإن عبدالكريم النحلاوي كانت لديه فكرة ثابتة أظهرت نيته بحكم سورية على الطريقة التي حكم بها أديب الشيشكلي، وهذا ما ذهب إليه الفريق لؤي الأتاسي أثناء محادثات الوحدة الثلاثية، إذ قال: «... وهدفه (أي عبدالكريم النحلاوي) ما كانش الانفصال، هدفه كان 28 آذار/ مارس (1962) علشان يتسلم الحكم بسورية، والكلام هيدا أنا قلته بسورية، وقلت: الإنسان هذا المدعو عبدالكريم النحلاوي ما إجاش قام بالانفصال علشان الانفصال إنما علشان يحكم». ووافقه المشير عبدالحكيم عامر بالقول: «ده صح». لكن مسعى عبدالكريم النحلاوي للإمساك بزمام السلطة في سورية حين قام بحركة 28/3/1962 الانقلابية فشل، إذ ان مؤتمر كبار الضباط السوريين الذي عقد في حمص في 2/4/1962 قرر بالإجماع إبعاده، مع خمسة من زملائه الانقلابيين، الى خارج سورية، وتنوعت خلفيات عداء هؤلاء الضباط للنحلاوي، فمنهم من أخذ عليه تنكره لشركائه في انقلاب 28/9/1961، وآخرون رأوا فيه معادياً للحياة الدستورية حين قام بانقلاب 28/3/1962، وفئة حيادية اعتبرت، أنه يعمل للاستيلاء على السلطة وفقاً لطريقة أديب الشيشكلي، أما الضباط الوحدويون فاعتبروه المسؤول الأول عن الحركة الانقلابية الانفصالية في 28/9/1961. وكما بيّن الفريق عبدالكريم زهر الدين في مذكراته، صفحة 219، فإن النحلاوي حاول التمنّع والعصيان في دمشق «وفكر بالاستنجاد بقطعات يطلب دخولها من الأردن». لكن تحركه فشل، واضطر الى مغادرة سورية مع خمسة من رفاقه الضباط الانقلابيين، ليعود مجدداً وليحاول القيام بانقلاب في 13/1/1963، كان مصيره الفشل، وبالتالي نفي النحلاوي الى خارج سورية. وما زال خارجها حتى يومنا هذا. * كاتب لبناني