عُقد في اليومين الأخيرين من السنة المنصرمة «المؤتمر الدولي الأول لترجمة معاني القرآن الكريم» في طرابلس بشمال لبنان بمبادرة من دار الفتوى في طرابلس وجامعة الجنان الخاصة وبالتعاون مع اتحاد المترجمين العرب. وقد توزّعت محاور هذا المؤتمر على خمسة (ترجمات معاني القرآن الكريم – تاريخ ووقائع، خصوصية النص القرآني من الناحية اللغوية وخيارات المترجم تجاهها، الترجمة وخصوصية النصوص الدينية، المصطلح القرآني وآلية نقل الدلالات والمعاني، دراسات نقدية لبعض ترجمات معاني القرآن الكريم) بالإضافة إلى جلسة ختامية حول «أثر الترجمة في التعريف بالقيم الحضارية والعلمية للقرآن الكريم». ويبدو من كلمات الجلسة الافتتاحية الكثيرة وتغطية الصحافة اللبنانية بالاستناد إلى ما أوردته «الوكالة الوطنية للأنباء» أن الأمر يتعلق بإنجاز رائد سمح لهذا الحدث أن يسوّق تحت مسمى «المؤتمر الدولي الأول لترجمة معاني القرآن الكريم». ولو أن الأمر يتعلق بترجمة الأدب العربي إلى لغات العالم لهان الأمر، ولكن طالما يتعلق الأمر بترجمة القرآن الكريم إلى لغات العالم يبدو هنا تقصير كبير من علماء المسلمين بحق كتابهم المقدس إلى حد أن «المؤتمر الدولي الأول لترجمة معاني القرآن الكريم» ينعقد في طرابلس بشمال لبنان في الأيام الأخيرة من 2015! ومن المعروف والمسلّم به أن العلم في أي مجال تراكمي، ويفترض بمن يعمل في كل مجال أن يعرف ما نُشر فيه وأن يضيف عليه ما يكشفه من جديد، وبذلك يضفي على إضافته قيمة أكبر. فالعمل المؤسسي أو عقد الندوات الدولية في هذا المجال (ترجمات القرآن الكريم) بدأ منذ حوالى أربعين سنة على الأقل، ونُظّمت في غضون ذلك عدة ندوات دولية في مراكز العالم الإسلامي ونشرت أبحاثها في كتب أصبحت مراجع في هذا المجال. ولذلك بعد هذه الجهود الدولية والأبحاث المنشورة يبدو مستفزاً الحديث عن «المؤتمر الدولي الأول لترجمات معاني القرآن الكريم» من دون الإشارة إلى الجهود السابقة وما أثمرت عنه من إضاءات ودراسات رائدة يبنى عليها. وكان من المؤسسات العلمية الرائدة في هذا المجال «مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في إسطنبول» (أرسيكا) الذي تأسّس عام 1980 من قبل «منظمة المؤتمر الإسلامي» (منظمة التعاون الإسلامي الآن) ليكون جهة مرجعية في البحث وعقد الندوات الدولية على صعيد العالم الإسلامي، وهو ما نجحت فيه بما عقدته من ندوات دولية وما نشرته من كتب مرجعية وأصبحت مؤسسة دولية معروفة على صعيد العالم. وقد بادرت المؤسسة إلى عقد أول ندوة دولية عن ترجمات القرآن الكريم إلى لغات العالم في 1985 وتوّجت بهذه المناسبة إصدارها لعملها الموسوعي في الإنكليزية «ترجمات معاني القرآن الكريم: الترجمات المطبوعة» في 1986. وبالاستناد إلى هذه الانطلاقة القوية قامت جامعة آل البيت الأردنية بعقد الندوة الدولية الثانية تحت عنوان «ترجمات القرآن الكريم إلى لغات الشعوب والجماعات الإسلامية» في 1998، التي شارك فيها بعض من حضر الندوة الدولية الأولى. وقد تميزت هذه الندوة، التي نشرت أبحاثها عام 1999 بالعربية والإنكليزية، بالكشف عن آخر الترجمات التي صدرت من البرازيل إلى شبه القارة الهندية مع كشف لبعض الترجمات القديمة غير المعروفة ونقد لبعض الترجمات الأوروبية الجديدة (الروسية والألمانية الخ)، بالإضافة إلى محور «شهادات» الذي فسح المجال لبعض أشهر المترجمين أن يستعرضوا تجربتهم أمام الجهور (الشيخ صالح الحايك وعادل الخوري وعبد الله فرانك بوبنهايم ونديم غندجيف ونظام الدين عبد الحميد وفتحي مهدي) شملت الترجمات الجديدة إلى الإنكليزية والألمانية والكردية والبلغارية والألبانية. وبعد عدة سنوات قامت مؤسسة أخرى أصبحت مرجعية في هذا المجال (مجمع الملك فهد للمصحف الشريف بالمدينة المنورة) بعقد الندوة الدولية الثالثة في 2003، أي بعد خمس سنوات اتسمت بطفرة من الترجمات الجديدة. وقد تميزت هذه الندوة بالتعريف بترجمات فاتت الندوتان الأوليان مثل الترجمة السويدية والبنغالية والملاوية والعبرية واليوربا، كما تميزت بالبحث المهم الذي قدمه البرفسور أكمل الدين إحسان أوغلو (المدير الأول لمؤسسة «أرسيكا» التي عقدت الندوة الأولى) عن «الترجمات المخطوطة» ليكمل بذلك ما بدأته مؤسّسته بنشر ببلوغرافيا الترجمات المطبوعة. ولكن، وهذا ما يحدث في كل ندوة، كانت هناك أوراق لم تضف شيئاً مثل ورقة الشيخ شوكت كراسنيتشي «نبذة عن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الألبانية» لأنه كانت لدينا ورقتان عن ترجمة القرآن الكريم إلى الألبانية في الندوة الدولية الثانية. وخصص المؤتمر الدولي الدوري «الترجمة وإشكالات المثاقفة» في 2014/ الدوحة جلسة كاملة ل»ترجمات القرآن الكريم» في المؤتمر الدولي الثاني الذي عقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015 بحضور د. هيثم الناهي المدير العام للمنظمة العربية الترجمة. وقد حفلت هذه الجلسة بأوراق أربعة غطّت مساحات جغرافية وتحليلات جديدة لترجمات متنوعة للقرآن الكريم، حيث تناول عيسى ميميشي في ورقته «ترجمات القرآن الكريم في بلاد البلقان: صربيا ومكدونيا» التي شملت الترجمة الغجرية الجديدة، وتناولت نصيرة ادبر «ترجمة المصطلحات القرآنية إلى الفرنسية: دراسة تحليلية ونقدية لترجمة المستشرق جاك بيرك»، بينما تناول بوعزي عسام «ترجمة القرآن الكريم إلى الإسبانية: بين الدعوة والمثاقفة» واشتملت ورقة شير علي خان «الترجمة الإنكليزية للآية القرآنية: الرجال قوامون على النساء». وقد كانت هذه الجلسة منطلقاً للتفكير والإعداد للندوة الدولية الرابعة لترجمات القرآن الكريم التي بادرت جامعة العلوم الإسلامية العالمية في عمان إلى تبنّيها، وجرى الاتصال الأوّلي مع المؤسسة الأم (أرسيكا) التي عقدت الندوة الدولية الأولى واشتغلت في السنوات الأخيرة على إصدار أقدم النسخ المعروفة للقرآن الكريم في مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2015. ولكن يبدو أن المؤسسة كغيرها كانت مغيّبة عن «المؤتمر الدولي الأول لترجمة معاني القرآن الكريم» الذي عُقد في طرابلس بشمال لبنان في الأيام الأخيرة من 2015، حيث كان الأولى به أن يعترف بالجهود التي بذلت في هذا المجال خلال أربعة عقود. وعلى كل حال فالمجال يبقى مفتوحاً للمزيد لأن الظروف المستجدة في المشرق والغرب تزيد من الاهتمام بالقرآن الكريم وتدفع بالمزيد من الترجمات الجديدة في اللغة الواحدة. فمن كان يتصوّر أنه خلال أربعين سنة يتجاوز عدد الترجمات إلى البوسنوية أو الألبانية العشرة بعد أن كانت الترجمة غير مألوفة في النصف الأول للقرن العشرين؟