يستحق التطور، أو التوتر، في العلاقة الأميركية – السورية الناتج من اتهامات لدمشق بتزويد «حزب الله» صواريخ «سكود»، وهي اتهامات نفتها سورية وأكدتها إسرائيل، يستحق التوقف عنده لدراسة خلفيته وأبعاده وإفرازاته على العلاقة الثنائية وعلى التموضع السوري اقليمياً. فتحذير إدارة باراك أوباما للحكومة السورية من «خطورة الخطأ في التقدير ومما قد ينتج من تصعيد كهذا» تلته حملة عنيفة من الكونغرس على الإدارة وتبنيها لسياسة الليونة والانفتاح والتحاور والانخراط مع دمشق بلا محاسبة على الماضي وبلا تدقيق في السياسات السورية الراهنة نحو إيران و «حزب الله» والمنظمات الفلسطينية المسلحة داخل لبنان. تزامنت مع ذلك تلميحات بأن الإدارة الأميركية لن تشن معركة خاسرة ومكلفة لها لمنع اسرائيل من القيام بعملية عسكرية تشمل سورية ولا تقتصر على «حزب الله» بسبب تسريب أسلحة في انتهاك لقرارات مجلس الأمن. فالإدارة في صدد معركة مع إسرائيل بسبب الاستيطان غير الشرعي والتصعيد في القدس. والعلاقة بين إدارة باراك أوباما وحكومة بنيامين نتانياهو تحتقن فيما يتردد ان الإدارة الأميركية تقوم بإعداد خطة لحل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي والنزاع العربي – الإسرائيلي تعارضها إسرائيل، كما ان الإدارة الأميركية تخوض أيضاً معركة تعزيز العقوبات على الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتعمل على كبح إسرائيل عن أية مغامرة عسكرية ضد ايران. ولأن هذه المعارك لها الأولوية وهي أساسية في الاستراتيجية الأميركية، لن تعرّضها إدارة أوباما للهشاشة بإضافة معركة ليست مقتنعة بها للجم إسرائيل عن عمليات عسكرية لإزالة صواريخ «حزب الله» وقطع طرق تسريب الإمدادات العسكرية اليه في سورية، وبالتالي فالمؤشرات الآتية من واشنطن تفيد بأن الإدارة الأميركية لن تقف في طريق إسرائيل إذا ما ثبت قطعاً ان الصواريخ المتطورة وصلت الى «حزب الله»، وبغض النظر عما اذا كانت الصواريخ انطلقت من سورية أو من إيران ووصلت الى «حزب الله» عبر سورية. ففي كلا الحالين، سورية في عمق هذه الأزمة. فإذا كانت الصواريخ انطلقت من إيران، فإن طهران تنتهك بذلك قرارين لمجلس الأمن أحدهما يمنعها من تصدير السلاح والآخر يمنعها من تسريب أية أسلحة الى أي طرف غير الجيش في لبنان. أما ناحية سورية فإنها معقدة وتزداد تعقيداً بسبب تموضعها وغموض غاياتها والإسراف في بعض من «التكتيك» بما يضع استراتيجيتها تحت الشكوك والتساؤل. وأول الأسئلة يجول في حلقة الخيار الاستراتيجي السوري نحو كل من إسرائيل وإيران وتداخل هذا الخيار مع العلاقات المرجوة مع الولاياتالمتحدة. في البدء، وإذا كانت مسألة الصواريخ «مفبركة» كما تقول سورية التي تنفي قطعاً الاتهامات الإسرائيلية، يطرح السؤال نفسه من زاوية: ماذا تريد إسرائيل من هذا التصعيد ضد سورية، وليس فقط ضد «حزب الله»؟ إسرائيل اليوم حشرت نفسها في زاوية وأتت على نفسها بعزلة دولية. علاقاتها المتدهورة مع الإدارة الأميركية أسفرت عن انقسام داخل حلقة المؤيدين لها في المنظمات الأميركية – اليهودية وتركت حرارة في حلق جزء من الرأي العام الأميركي. المؤسسة العسكرية الأميركية تتململ من إسرائيل لأنها تجد في رفضها للسلام وفي إصرارها على المضي بالاحتلال والاستيطان والقمع والاغتيالات واستهداف المدنيين وتدمير البيوت والطرد سياسات مؤذية للمصلحة القومية الأميركية. فالمؤسسة العسكرية تخوض الحروب ضد التطرف في بقع عدة في العالم الإسلامي، والإجراءات الإسرائيلية تغذي التطرف وتقوّيه وتطلقه ضد الأهداف الأميركية بسبب استمرار احتضان اميركا بلا محاسبة «لابنتها المدللة» إسرائيل. وبالتالي، ازدادت ضغوط المؤسسة العسكرية والإدارة الأميركية والرأي العام على إسرائيل كي تكف عن الاستخفاف بالمصلحة القومية الأميركية. اختلاق الأزمات أو استدراج الحروب أو اتخاذ قرارات كانت مؤجّلة حتى إشعار آخر – على نسق مواجهة صواريخ «حزب الله»، هي إجراءات تفيد في إخراج إسرائيل من العزلة الدولية وتساعد في تملصها من الضغوط الأميركية. توفير صواريخ متفوقة ل «حزب الله» مسألة لا تكسب التعاطف الدولي بل تستفز الغضب وتضع إسرائيل في زاوية «الضحية» التي «تدافع عن نفسها». وهذا ما قد تكون إسرائيل خططت له باختلاقها أزمة الصواريخ أو قد تم تقديمه اليها على طبق من فضة إذا صدقت اتهامات تسريب هذه الصواريخ الإضافية الى «حزب الله». وهي إضافية لأن «حزب الله» لا ينفي امتلاكه صواريخ يتباهى بها علناًَ. وإيران تنفي، عموماً، انها من أمَّن هذه الصواريخ ل «حزب الله». وسورية تتظاهر دوماً وكأن حدودها مع لبنان ليست تحت سيطرتها الكاملة. وإسرائيل أوضحت تكراراً انها قد تتعايش مرحلياً مع سلاح «حزب الله» على حدودها، انما لن تتعايش دائماً مع هذا السلاح سيما وهو يتكاثر كماً ونوعاً. وبالتالي، إذا لم تعالج طاولة الحوار اللبناني هذا السلاح أو إذا لم تحتويه الصفقات الإقليمية، ان كانت مع سورية أو مع ايران، فإن الحرب المدمرة للبنان كله ستكون القرار الإسرائيلي في نهاية المطاف. الجديد ليس في علاقة اسرائيل مع سلاح «حزب الله» على الساحة اللبنانية وانما الجديد هو التهديد العسكري المباشر لسورية بتحميلها مسؤولية هذه الصواريخ بعدما كان وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان تحدث عن «إزالة النظام السوري». الإدارة الأميركية سعت وراء احتواء التصعيد الإسرائيلي – السوري وحالت دون تسرّع إسرائيل الى إجراءات عسكرية بسبب صواريخ «سكود». انما مع ازدياد الغضب والاتهامات، شعرت الإدارة انها قد لا تتمكن من المضي في صد العمليات الإسرائيلية فصعّدت التحقيق في المزاعم الإسرائيلية وأبلغت سورية من خلال سفيرها في واشنطن وعبر إفادة وكيل وزير الخارجية جيفري فلتمان امام الكونغرس بأنه «إذا تم حقاً نقل هذه الأسلحة، فإن سورية ارتكبت خطأ. خطأ سيؤدي بنا الى مراجعة مجموعة كاملة من الاحتمالات». في البدء، تصرفت دمشق وكأنها وجدت في التهديدات الإسرائيلية فرصة لها لرفع راية الصمود والمقاومة. قلقت قليلاً من تأثير ذلك في قرار البيت الأبيض إعادة السفير الأميركي الى دمشق – بعدما سحبته إدارة جورج دبليو بوش في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الاسبق رفيق الحريري. انما ما لبثت أن ارتاحت الى استخلاصها ان ادارة باراك أوباما لن تتراجع عن قرارها الاستراتيجي بالانخراط مع سورية، وبالتالي لن تعود عن قرار إرسال السفير الى دمشق. استرسال دمشق في هذا الافتراض ساهم في تحذير واشنطن لها قبل ثلاثة أيام من «خطورة الخطأ في التقدير»، وسخونة النقاش بين صفوف أعضاء الكونغرس في الجلسة العاصفة قبل يومين مع فلتمان بعثت رسالة الى دمشق بأن تتنبه كثيراً. فقد برزت مواقف ونُشِرَت مقالات وعُقِدَت ندوات معظمهما حذّر دمشق من الافراط في «ابتهاجها بالنصر» لدرجة النشوة. البعض ذكّر ان سبب انزلاق سورية الى العزلة لخمس سنوات أتى نتيجة ارتكاب خطأ الإصرار على فرض تعديل في الدستور اللبناني للتمديد لرئيس الجمهورية السابق اميل لحود. كثيرون تحدثوا عن تلك «القشة التي قصمت ظهر البعير». أشاروا الى «قمة المقاومة» التي استضافها الرئيس السوري بشار الأسد وحضرها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد والأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله، والتي ألمحت دمشق عبرها باستبدال خيارها الاستراتيجي المعلن القائم على التفاوض والسلام ليكون خيارها الاستراتيجي هو المقاومة. إذا فعلت دمشق ذلك حقاً، أي التخلي عن عقيدة «التفاوض هو خيارنا الاستراتيجي» واستبدلتها ب «المقاومة هي خيارنا الاستراتيجي»، فما يترتب عليها اذن هو التالي: الاستعداد لمواجهة عسكرية مع إسرائيل في حرب رقعتها سورية ولبنان، لن تخوضها إيران ولن تشارك فيها الجيوش العربية، والاستغناء عن علاقة مع واشنطن سعت وراءها دمشق طويلاً ووصلت الى مرحلة إعادة السفير الأميركي وغض النظر عن الماضي والتعاطي مع القيادة السورية كطرف أساسي في المنطقة والعمل نحو مفاوضات سورية – إسرائيلية. أما إذا كانت الديبلوماسية السورية تتبنى المناورة كي تحصل على أقصى قدر مما تريده في زمن الارتخاء الأميركي والأوروبي والعربي نحوها، فإن رهانها قد يصيب كما قد يفشل فشلاً ذريعاً. حتى الآن حصدت دمشق من دون ان تضطر أن تدفع أي ثمن، والشكر يعود في ذلك الى الديبلوماسية القطرية والفرنسية والسعودية والأميركية وكذلك الإسرائيلية. فعلت دمشق ذلك من دون أن تخسر أو تغامر جدياً بالعلاقة الاستراتيجية الإيرانية – السورية. اليوم، وبعدما أبلغت دمشق جميع المعنيين ان رهانهم على سلخها عن إيران ساذج، فهي تتصرف بالمغالاة نفسها التي تميّز التصرفات الإيرانية، أي ان دمشق تبدو وكأنها بدورها تحاول إفشال باراك أوباما وتعجيز سياسة الانخراط التي تبناها في الوقت الذي يسعى فيه الرئيس الأميركي للضغط على إسرائيل. اللافت هو ان النظامين الحاكمين في إسرائيل وإيران هما أكثر المستفيدين من اختلاق حروب – عبر لبنان – لتحويل الضغوط الدولية بعيداً عنهما انما تبدو سورية وكأنها تلعب لعبة خطيرة بينهما. هناك كلام – وإن بدا مستبعداً – عن رغبة سورية باستدراج ضربة إسرائيلية عسكرية عليها وعلى لبنان من أجل إعادة رسم خريطة المنطقة، بحيث تحتل سورية مكانة القيادة العربية في التصدي لإسرائيل بتحالف مع إيران. هذا السيناريو يبدو خيالياً لأن كلفة الحرب وكلفة مثل هذا القرار مصيرية، انما في زمن كهذا، ليس من الحكمة عدم الأخذ في الاعتبار حتى السيناريوات الخيالية. واقعياً، الأرجح ان تتسلق دمشق السلم هبوطاً لتصون العلاقة مع الولاياتالمتحدة وتعيد العلاقة مع إسرائيل الى ضوابطها. إلا أن هذه الأزمة وضعتها تحت مجهر المراقبة. وبالتالي، من المفيد لدمشق إبراز حسن نياتها. ومن الضروري للإدارة الأميركية أن تكف عن دفن رأسها في الرمال لجهة العلاقة السورية – الإيرانية أو السورية – اللبنانية وان تفعل كل ما في وسعها لسحب كل الذرائع من إسرائيل ولمنعها من إشغال المنطقة بحروب مكلفة.