أضاف المنخفض الجوي الذي تمر به سورية بعداً إضافياً الى معاناة النازحين السوريين من ضواحي دمشق الى شوارع المدينة، وسط انقسام في أوساط سكان العاصمة بين متعاطفين... وتحميل النازحين مسؤولية طلبهم «الحرية». وكان عشرات الآلاف من سكان الغوطتين الشرقية والغربية لدمشق وريف العاصمة نزحوا بسبب تعرض مناطقهم الى حصار شديد وقصف من القوات النظامية، إضافة الى تحولها الى أرض معارك بين قوات النظام وموالين من جهة ومقاتلين محليين من جهة أخرى. وتختلف معاناة النازحين. اذ نجح بعض الأسر في دفع إجار شقة متواضعة في دمشق، لكنها بعد سنوات من الحرب لم تعد قادرة على شراء المازوت للتدفئة في الشتاء البارد، فيما تعيش أسر أخرى في بيوت غير جاهزة للسكن، وهي «أكثر حظاً» من أسر تفترش شوارع عاصمة الأمويين. وتتعرض معظم أرجاء المحافظات السورية منذ الأربعاء الماضي لمنخفض جوي قطبي المنشأ، وتراوحت درجات الحرارة بين 5 إلى 6 درجات نهاراً، لتنخفض إلى ما دون الصفر ليلاً. وفي مشهد لم يخطر ببال السوريين يوماً أن يروه، كان أبو محمد وهو في العقد السادس من العمر في ساعات الصباح الباكر يجلس على رصيف أحد الطرق الرئيسية في دمشق تحت المطر، مرتدياً قبعة صوفية، وثياباً بالية. وجنتاه وأذناه وأنفه حمر اللون، وشفتاه ترتجفان وكفاه مغلقتان لا يقدر على بسطهما من شدة البرد بعدما أمضى ليلته على الرصيف. وبكلمات مملوءة بالحزن وممزوجة بالدمع والمرارة، يقول وقد بدت أمامه بقايا رماد ورق كان حرقه ليقي نفسه البرد، أنه هجر وأفراد عائلته الخمسة منزله في ريف دمشق الشرقي ولا يملك اموالاً لاستئجار غرفة بسبب قلة فرص العمل، وأنتهى به الحال إلى الرصيف، ولا يعلم عن باقي افراد أسرته اي شيء. بعض المارة من أمامه كان ينظر إليه بعين الشفقة. بعضهم رمى اليه بقطع من النقود فيما أعطاه آخرون رغيفاً أو رغيفين من الخبز، فيما كان آخرون لا يكترثون لحاله. بل يصل الأمر ببعضهم الى الشماته وترديده عبارات تتضمن نوعاً من التشفي: «بدكن (تريدون) حرية ... هاي الحرية». حال بعض العائلات ممن شردتها الحرب أفضل نوعاً ما من حال أبو محمد، اذ استطاعت ايجاد منزل ولو قيد الإنشاء تستر فيه نفسها. «أم فارس» وأطفالها الثلاثة شردتهم الحرب من منزلهم في حي التضامن جنوب العاصمة، ليستقر بهم الحال في شقة في بناء لا يزال قيد الإنشاء في ريف دمشق الغربي منحهم إياه من دون بدل إيجار في شكل موقت القائمون على تشييده. وتقول «أم فارس» وهي ترتدي ثوباً طويلاً ووشاحاً من الصوف: «صحيح أننا في منزل من دون نوافذ وأبواب وقمت باستكمال بعض أساساته من ماء وكهرباء وصرف صحي وحاولنا سد النوافد بأكياس من النايلون والأبواب بقطع من القماش لنقي انفسنا البرد، إلا أن الرمد أفضل من العمى. حالنا أحسن من غيرنا ممن أنتهى بهم الأمر الى الطرقات والحدائق». وتوضح، أنها في كل يوم ترسل أطفالها الى الشوارع لجلب كميات من الخشب، ثم تجمعها وتحرقها من أجل التدفئة، لافتة الى أن الهواء البارد يدخل من النوافذ والأبواب كونها غير محكمة الإغلاق. وبخلاف الحالة السابقة، فإن «أبو زيد» وعائلته المؤلفة من ستة اشخاص لم يقبل قائمون على تشييد بناء جنوبدمشق ان يسكنوهم في شقة قيد الانشاء من دون مقابل. ويقول: «الجشع يملأ قلوب غالبية الميسورين. على رغم أنها شقة لا تحتوي سوى على غرفة وصالون صغير ومنافع، وما زالت غير صالحة للسكن كونها لا يوجد فيها لا ماء ولا كهرباء ولا ابواب ولا نوافذ، إلا انهم رفضوا إلا ان يتقاضوا 10 آلاف ليرة عن كل شهر (الدولار يساوي حوالى 380 ليرة). ظروفنا المادية دفعتنا الى القبول وندبر أمرنا بجلب الماء من البيوت المجاورة ... وخط كهرباء مخالف وبصرف صحي موقت». ويوضح: «ليس لدي مقدرة على شراء المازوت أو الغاز للتدفئة، والكهرباء لا تغذي سوى أقل من 8 ساعات في اليوم، لنقضي الليل والنهار بتحمل البرد القارس الذي يتسلل من النوافذ والابواب وينخر عظام أفراد الأسرة». الحال ربما تكون أفضل للأسر التي تتيح لها امكاناتها دفع بدل ايجار لشقة متواضعة. ويقول رجل وهو أب لطلفين وحالفه الحظ بالعثور على منزل في أحد الأحياء العشوائية بدمشق بسعر مقبول من طريق اصدقاء: «وضعنا ليس على ما يرام ولكنه مقبول. نقضي اليوم ونحن ملتحفون بالأغطية لنقي انفسنا برد الشتاء». ويضيف: «راتبي الشهري 30 ألف ليرة... يكاد لا يكفي لنعيش على الكفاف وندفع بدل الإيجار، كيف نشتري مازوت». ويبلغ سعر ليتر المازوت في محطات الوقود الحكومية 135 ليرة، فيما يصل سعره في السوق السوداء الى أكثر من 250 ليرة مع قلة المادة في البلاد. وتقوم الحكومة حالياً بتوزيع 200 ليتر على كل عائلة بسعر 135 ليرة عبر التسجيل في محطات الوقود التابعة لها بناء على البطاقة العائلية. ومع ارتفاع التكاليف المعيشية للأسر في ظل الارتفاع غير المسبوق لأسعار المواد الغذائية والمواد الاخرى، بات التسجيل على مادة المازوت لدى تلك المحطات يقتصر على الأسر ذوي الدخول الشهرية المرتفعة. وبينما تحظر الحكومة على محطات الوقود بيع المادة للمواطنين العاديين في شكل عشوائي، تقوم الجهات المعنية بإرسال «صهريج» الى كل حي من أحياء المدينة مرة في الشهر لتوزيع 40 ليتراً على كل عائلة بموجب البطاقة العائلية. وتلك العائلات غالباً لا تسمح لها دخولها الشهرية بالتسجيل على 200 ليتر. ونادراً ما يستطيع المواطن العادي الحصول على المادة من تلك الصهاريج، ذلك ان غالبيتها تذهب الى عناصر «قوات الدفاع الوطني» وعناصر الجيش النظامي والاستخبارات وتجار السوق السوداء، نتيجة الفوضى التي سادت في البلاد منذ اندلاع الحرب. وأسفرت الحرب في سورية المستمرة منذ نحو خمس سنوات عن دمار وخراب هائلين جراء العمليات العسكرية. ويقول الباحث الاقتصادي عمار يوسف: «سجل حتى نهاية العام 2015 ما يزيد على 2.3 مليون مسكن مدمّر في سورية وغير قابل للاستثمار العقاري، وكانت هذه المنازل تأوي حوالى سبعة ملايين شخص نزحوا إلى مناطق أخرى». ويضيف يوسف الذي يعد دراسة سنوية حول نسبة الدمار جراء النزاع: «أكثر المناطق التي توجد فيها منازل متضررة هي ريف دمشق اذ كانت تضم قرى مسحت عن الخريطة، تليها مدينة حمص التي سجل فيها دمار أكثر من 800 ألف مبنى بينها شقق ومدارس ودور عبادة حتى نهاية العام 2015». ويوضح ان «كلفة إعادة إعمار المساكن المتضررة والبنى التحتية حتى نهاية العام 2015 بلغت أكثر من 250 بليون دولار». ووفق تقرير صدر في أيار (مايو) 2014 من المركز السوري لبحوث السياسات، وهو مركز غير حكومي تستند اليه الأممالمتحدة في إصدار تقاريرها، أصبح ثلاثة أرباع السوريين من الفقراء، وأكثر من نصف السكان يعيشون في فقر شديد. ويقدر يوسف حاجة سورية الى «ثلاثة ملايين مسكن في شكل عاجل» لمواجهة أزمة السكن في ضوء «ارتفاع عدد الأشخاص الذين يقطنون داخل المسكن الواحد بمعدل خمسة أشخاص قبل اندلاع الحرب، وصولاً إلى عشرين في الوقت الراهن». ويوضح يوسف ان «المعيار الأساسي لسعر العقار أو بدل استئجاره هو نسبة الأمان في المنطقة التي يوجد فيها»، لافتاً الى أن «بدل الإيجار تضاعف أكثر من عشر مرات منذ بدء الحرب في ظل ارتفاع الطلب على المساكن جراء نزوح مئات الآلاف من المناطق غير الآمنة». ووفقاً لبيانات نشرها «مكتب التنسيق للشؤون الإنسانية» التابع للأمم المتحدة (اوتشوا) فإن أكثر من 7.5 مليون شخص نزحوا من مناطق إقامتهم إلى مناطق افترضوها أكثر أمناً، اضافة الى أكثر من خمسة ملايين لاجئ خارج البلاد.