بعد أكثر من ستين عاماً على قيامها، تجد إسرائيل نفسها اليوم في وضع مهتز، وحساس جداً، وربما أكثر مما كانت عليه عام 1948. ووفق تقارير إعلامية وسياسية إسرائيلية، فإنّ أداء نتانياهو قد يقود إلى العقوبات الاقتصادية والمقاطعة. في وقت وجد من يتساءل: هل نحن في حاجة إلى نصف مليون مستوطن في الضفة الغربية يقاتلون على ثلاثة في المئة من الأرض؟ في حين أنّ المشكلة المركزية لإسرائيل ليست الحروب، إنما الوضع الاقتصاديّ، وقد تبين في ضوء دعوات المقاطعة الأوروبية، أنّ لا حاجة لقرار من الأممالمتحدة بفرض عقوبات اقتصادية أو مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، إذ يكفي أن تبدأ بذلك دولة واحدة لينتشر في كل أوروبا. وبما أن إسرائيل دولة مصدرة، فإنه في ظل الوضع الصراعي مع الشعب الفلسطيني واستمرار الاحتلال، بات العالم يميل إلى اعتبارها دولة أبارتهايد، في إشارة إلى تشابه وضعها مع وضع جنوب أفريقيا. في هذه الأثناء، يمضي الفلسطينيون بصورة متزايدة، نحو اعتماد نموذج جنوب أفريقيا القائم على المقاومة الشعبية في الداخل، والدعوة إلى مقاطعة دولية لإسرائيل من الخارج، وذلك في أعقاب مضي مجموعة من الناشطين الفلسطينيين بتنظيم الكثير من الأنشطة التي تنامت مع الوقت، مولدة أشكالاً متنوعة من المقاومة الشعبية السلمية التي كانت بدأت بقرية بلعين الصغيرة عام 2004، وامتدت إلى عدد أكبر من القرى والتجمعات، ثم تحولت إلى تنظيم أنشطة رمزية مركزية، مثل إقامة قرى في مناطق مهددة بالمصادرة، أو إعادة إحياء قرى مهجرة وغيرها. وتوجت جهود الفلسطينيين الداعية إلى مقاطعة المستوطنات ومنتجاتها والمؤسسات العاملة فيها، بإعلان الاتحاد الأوروبي وقف كل أشكال الدعم والتعاون مع مؤسسات تعمل في المستوطنات ابتداء من العام الحالي، وإلزام إسرائيل إظهار منشأ كل سلعة تصل إلى السوق الأوروبية، لتمييز سلع المستوطنات عن السلع المنتجة في إسرائيل. وبيّنت منشورات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية تراجعاً كبيراً في صادرات المستوطنات من المنتجات الزراعية العام الماضي بنسبة 50 في المئة، وتراجع صادراتها الصناعية والتجارية بنسبة 14 في المئة. من هنا، تلك الملاحظة التي خلصت إليها دراسة إسرائيلية، تقول إن إسرائيل توقفت منذ زمن طويل عن إنتاج خطاب أخلاقي كباقي الدول المتنورة، وهي لا تستطيع مواصلة الرقص في حلبة الديموقراطية على ألحان رقصة الاحتلال، على حد تعبير باحثة، كشفت النقاب عن أن نظرية حديثة لتحليل الاحتلال الإسرائيلي، تؤكد أن وضع السكان الفلسطينيين تحت الاحتلال، يشبه كثيراً وضع العبيد السود في أميركا في القرن ال19، وأن الإسرائيليين المأسورين والمرتهنين لنظرية التوسع الاستيطاني، ليسوا على استعداد للاعتراف بذلك، كما قالت عالمة الاجتماع الإسرائيلية إيفا إيلوز التي أعدت الدراسة ونشرتها في ملحق صحيفة (هآرتس). وإضافة إلى العنصرية المقيتة والأبارتهايد الذي بات مكشوفاً أكثر من ذي قبل، يحاول الكيان الاستيطاني الصهيوني اللعب على الوتر الطائفي، عبر تبني ما يبدو وكأنه خطة جهنمية لتفرقة أبناء الشعب الفلسطيني، بطوائفه المختلفة المسيحية والإسلامية. ومن ضمن التوجهات العنصرية المتنامية، إعلان رئيس كتل الائتلاف في الكنيست، النائب ياريف ليفين، اعتزامه طرح مجموعة قوانين مؤداها «فرق تسد» على أساس طائفي ضد فلسطينيي 1948، وتمنح حقوقاً للعرب المسيحيين وفصلهم عن المسلمين، بادعاء أنهم «ليسوا عرباً»، وفي محاولة لجعلهم وفق توصيفه «يتماثلون مع إسرائيل»: وبالفعل أصدر الكنيست، قانوناً اعتبر فيه المسيحيين العرب تحت الاحتلال، أقلية منفصلة عن المسلمين العرب! واعترف ممثل النيابة الإسرائيلية قبل أيام بأنّ إسرائيل تنظر إلى احتجاجات عرب ال48 السياسية بمنظور أمني، وترى فيها تهديداً أمنياً، وتصفها بأن دوافعها «أيديولوجية تآمرية – على خلفية قومية». جاءت أقوال ممثل الدولة في معرض دفاعه عن الدور الذي لعبه محققو «الشاباك» خلال الاحتجاجات على مخطط «برافر» بناء على التماس «جمعية حقوق المواطن» للمحكمة العليا، والتي قالت إنّ جهاز الأمن العام «الشاباك» يلاحق الناشطين السياسيين الذين شاركوا في الاحتجاجات ضد مخطط برافر التهجيري. يجري هذا كله على خلفية ذاك «الإجماع الصهيونيّ» الذي يرى أنّ المشكلة الديموغرافية هي الخطر الأعظم الذي يتهدد أسس الكيان، وبشيء من مفارقات السخرية يقول البروفيسور أرنون سوفير أستاذ قسم الجغرافيا في جامعة حيفا، إنّه لا بأس من أن نُبقي على حاجتنا من الفلسطينيين، لجهة استخدامهم في جمع القمامة، والعمل في البنية التحتية الرثة، وكذلك في توفير الخضار والفواكه لنا، وكذلك الخدمة في المقاهي والمطاعم. علاوة على ذلك، يقترح سوفير على عجل، لإنقاذ التدهور السكاني اليهودي في إسرائيل، العمل على استيعاب أكثر من 200 ألف يهودي كل سنة. والأمر في رأي سوفير يتطلّب، وعلى جناح السرعة، قرارات سياسيّة صعبة ولا رجعة عنها، بدءاً مثلاً من الطرد الجماعي، وكل ما خلا ذلك لا يفيد الإسرائيليين، لا اليوم ولا غداً، على حدّ تعبيره. ديغول إسرائيلي! وإذا كانت أيديولوجية إسرائيل قامت على مبدأ طرد السكان العرب وإحلال يهود مكانهم، فإنّ مخازنها اليهودية في الخارج بدأت بالنضوب، لجهة إمدادها بالصهاينة الراغبين في العودة إلى ما يُطلقون عليها أرض الميعاد، الأمر الذي جعل سوفير وأصدقاءه يعلنون تعويم الترانسفير الجديد، وطرد كل من فلسطينيي 1948، ومعهم فلسطينيو غزةوالضفة الغربية أيضاً إلى الأردن والعراق، وتوطين الفلسطينيين حيث هم في الدول العربية ودول العالم كافة. وتحت عنوان (دولة تل أبيب تهديد لإسرائيل)، كتب أرنون سوفير يقول: إنّ إسرائيل ستُواجه خلال ال15 عاماً المقبلة، أخطار انهيار داخلي مريع، يتهددها أكثر من القنبلة النووية الإيرانية والجيوش العربية مجتمعةً، يتمظهر ذلك في فقدان السيطرة على أطرافها، وفي إطار اختزال تمركز ذاتها في دولة تل أبيب، على حدّ وصفه. أخيراً، وللخروج من هذا الانسداد المزمن في المفاوضات وقضايا الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، دعا اللواء المتقاعد والأكاديمي الإسرائيلي آهرون بريغمان الشعب الفلسطيني إلى إطلاق «انتفاضة شعبية غير مسلحة» ضد إسرائيل، لإجبارها على الرضوخ لمتطلبات السلام. وقال: «لإنجاح عملية سلام في المنطقة يجب أن تتوافر ثلاثة عوامل غير متوافرة الآن، وهي: انتفاضة فلسطينية غير عنيفة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ثانياً: ممارسة ضغط دولي على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وأخيراً، وجود حكومة يمينية في إسرائيل تكون قادرة على تقديم تنازلات». المطلوب أكثر من ذلك: وجود ديغول إسرائيلي ووضع دولي مساند، وغالبية إسرائيلية تقف في مواجهة ما يسمى «الإجماع الصهيوني» المتماسك حتى اللحظة. * كاتب فلسطيني