«أن يكون المرء منفياً يعني أن يكون حراً في أن يتخيل أو يحلم لنفسه بماضٍ، وكذلك بمستقبل لهذا الماضي». هذه المقولة للكاتب الجنوب إفريقي برايتن برايتنباخ تمثل إلى حد كبير، مدخلاً مناسباً لمناقشة الأطروحة الفكرية التي اشتغلت عليها أحلام شبلي في مشروعها الفوتوغرافي «لماذا تركتم الغابة فارغة؟» المعروض في دارة الفنون – مؤسسة خالد شومان، في العاصمة الأردنية عمّان. المشروع يشتمل على سلسلتين: «الوادي»، و «عرب الصبيح». والأخير اسم القرية التي تنتمي إليها جذور الفنانة، وتقع في منطقة الجليل الأسفل من فلسطينالمحتلة. وتذكر الوقائع التاريخية أن قسماًً كبيراً من أفراد تلك القرية شاركوا في حرب 1948، دفاعاً عن أراضيهم، بعضهم هُجِّر ليعيش في مخيمات الشتات في سورية ولبنان والأردن، وبعضهم الآخر لجأ إلى دير جبل الطور. ومع نهاية الحرب عاد الذين تمكنوا من العودة إلى قريتهم، بعد شهور من الاحتماء في مغارات الدير، وفي ذلك الحين، حدثَ التغيير المفصلي بأن اختار الأهالي اسم «عرب الشبلي» بديلاً من «عرب الصبيح» اسماً لقريتهم، ليحموا أنفسهم من انتقام سلطة الاحتلال الإسرائيلي. تستجلي شبلي في هذه السلسلة، الحدود التي تبدو غير مرئية أو ملحوظة بين المنفيَين الداخلي والخارجي، عبر تتبعها رحلة عائلتها داخل ما يمكن دعوته «الوطن» وخارجه، وكأنما هي تلملم شظايا الصور المتناثرة هنا وهناك، لتنجز من فسيفسائها صورة كبرى تؤطّرها حالة الفلسطينيين، وربما يذهب المرء أبعد من ذلك، فيُسقط الثيمة على حالات أخرى من التشظي والتشتيت أصابت شعوباً في غير زمان في بقاع الأرض المختلفة. وفي أثناء ذلك، ثمة بوصلة تستهدي بها الفنانة دونما انحرافٍ عن مسارها قيدَ أنملة؛ أن الفلسطيني الذي رُحّل قسراً من حدود وطنه الجغرافية، حمل هذا الوطن معه وأسكنه مهجةَ قلبه أو حنايا ضلوعه. هنا، تطرح «عرب الصبيح» أسئلتها الكبرى التي تتناسل بلا توقف، حول مفهوم الهوية، والدلالات التي ينطوي عليها، والكامنة في تعقيد المفهوم وبساطته في آن. إذ تنطلق شبلي في ذلك من المستوى الفردي المرتبط بالعائلة لتشير إلى المستوى الجمعي: كيف يستطيع الأفراد تكييف خبراتهم التي اعتادوها قبل المنفى ليستطيعوا المضيّ في حياتهم بعد المنفى، بأقل القليل مما يمكن التزوّد به، حتى لو كان ذلك من قبيل الأيقونات أو الترميزات التي تؤشر إلى محض ذكرى، أو تُحيل إلى زمنٍ مضى عبر مفردات ولوازم تنتمي في مزاجها العام وإيقاعها إلى الأرض المسلوبة. كل ذلك بينما يجري التحايل على النسيان بشحذ همّة التذكّر، وفتح نافذة الخيال على مصراعيها. وينبري السؤال حول المنطق أو الديناميات الكامنة وراء وجود عناصر مشتركة بين ساكني الأرض/ قاطنيها/ أهلها، أو النابتين من ضلوعها: وتجلى هذا عبر النمط المشترك لبناء البيوت، والتمسك بالأعراف الاجتماعية والعلاقات الإنسانية السائدة في زمنٍ يبدو حُلُمياً إذا ما قورن بمرارة الواقع والحالة المزرية التي لا مفر من تجرّعها، لتظل غصَّةً في الحلق. على سبيل المثال، تجول عدسة الفنانة في غرفة شيخ عرب الصبيح التي بقيت بعد رحيله على حالها، شاهدَ عيان على ما حدث ودليلَ إدانة تُبرزه الضحية في وجه المجرم، وظل الشيخ رغم ما كان من وحدة الحال بعدما فقد أقاربه الأرض والبيوت، محافظاً على مكانته الاجتماعية، ومضطلعاً بمسؤولياته تجاه «العائلة الكبيرة». إذ ترصد إحدى الصور في السلسلة، الملجأ الذي بناه الشيخ ليحتمي به الأهالي خلال حرب 1967. وإذا كان محمود درويش انبرى ذات يوم معلناً عن هواجس لا يمكن تبديدها بتصريح أو شعار، بقوله ذات تأمُّل على هيئة سؤال: «لم نعد نعلم، مَن منا الذي هاجر: نحن أم الوطن؟»، فإن صور شبلي تؤكد أنه بعد أكثر من ستة عقود من الشتات، لا يزال الفلسطينيون يقبضون كالجمر على هويتهم التي لا يخفى على أحد ما تتعرض له من تهديد، يثبّتونها في وجه المحو والإلغاء بأي شكلٍّ وبما استطاعوا إليه سبيلاً. فثمة نسخٌ متكرر لصور متعددة الدلالات للبيت/الوطن الذي أُجبروا على تركه، ما يشير إلى أن المكان الفلسطيني الذي هو عنصر أساسي في تشكيل الهوية الفردية والجماعية على حد سواء، غير قابل للنسيان، وإن كان التقليد والنسخ والنقل ما يُستعان به لإبقاء جذوة التذكُّر. هذه العملية التي تنقل الفن إلى حيز الواقع، مثلما تضع الواقع في مرمى الفن، تروم إلى بناء جسر بين الأصل والصورة، وتحويل الإحساس بالاغتراب والنفي إلى طاقة يؤمَل أن تكون مفعمة بالإيجابية لتعزيز الانتماء الى الوطن. وتشكل عملية النسخ هذه ما يبدو أنه الطريقةَ الوحيدة التي تمكّن اللاجئ من مواصلة الحياة، والإضاءة على مفهوم البيت بما يستحقه، خارج الحدود الجغرافية للوطن/ الغائب الحاضر. لذا، ليس من المستغرَب أن كثيراً من اللاجئين الذين خرجوا من المخيم وأقاموا أحياء جديدة على أطرافه، ظلوا ملتصقين بكل ما يتصل بالمخيم، ذلك أن الإنسان اللاجئ تعرّض لصدمة أربكت مسار حياته، وكي يتغلب عليها لا بد من أن يبتكر ويطور أساليب حماية تدافع عن وجوده وكينونته وهويته، وتؤكد انتماءه الى وطنٍ تشارَكَ فيه مع الآخرين من أبناء شعبه الثقافةَ واللغةَ والأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية. وبعدما قُدّر له الانشطار عنهم، وجدَ لزاماً عليه مواصلة مسيرته وكأنه لا يزال يعيش بينهم، وهو بذلك يستقوي على جور المنفى، ويعاند لإيقاف ما هو كامن في تعابير المنفى من خراب. هذه الفكرة التي عبّرت عنها شبلي في صورها الفوتوغرافية، لعلّها تتجلى بوضوح في كتابات إدوارد سعيد، الذي كثيراً ما رأى المنفى بوصفه عزلة تُعَاش خارج الجماعة بإحساس بالغ الحدّة: حيث يشعر الفرد بضروب الحرمان لعدم وجوده مع الآخرين في الموطن المشترك. ذلك أنّ المنفى هو في جوهره حالةٌ متقطّعة من حالات الكينونة، فالمنفيون مجتثّون من جذورهم، ومن أرضهم، ومن ماضيهم، لذا يشعرون بتلك الحاجة الملحّة لإعادة تشكيل حيَوَاتهم المحطّمة. تشكّل مجموعة «عرب الصبيح» ألبوماً عائلياً تتبعثر فيه صور الأبيض والأسود وتلك الملوّنة دونما ترتيب أو اتّساق: احتفالية لعدّاء مسافات طويلة في الناصرة العام 1946، مقاتل فلسطيني ابن عم شيخ عرب الصبيح يرتدي بزة عسكري، لاجئة فلسطينية من الأردن ولاجئ فلسطيني من سورية، جدار يزيّنه كاريكاتور يمثل شخصية حنظلة التي أبدعها ناجي العلي لتصبح رمزاً للمقاومة، طريق تؤدي إلى مكاتب منظمة «أونروا» في مخيم اللاجئين في إربد. وثمة أيضاً في السلسلة صور تتوالى بإيقاع يُراوح بين المألوف وغير المتوقَّع، المقبول والصادم: مقبرة مخيم اللاجئين في إربد، ومقبرة شهداء من منظمة التحرير الفلسطينية، منظر داخلي لمحل فلافل مزيَّن بملصقات فلسطينية وعراقية، خريطة نشاطات «أونروا» في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسورية ولبنان كما لو كانت جدارية في منزل عائلة من اللاجئين تقيم في عمّان، منظر ليلي للمنطقة التجارية لمخيم البقعة للاّجئين، بقالة الخليل، مقهى زُركشت أرجاؤه بالعلَم الفلسطيني، خريطة لفلسطين، بقالة بيسان... إنها صور تشير إلى الكيفية التي استعاد بها اللاجئ بيته/وطنه، ولو في مخياله ووجدانه لا أكثر: النسخ؛ نسخ قطعة من هنا وأخرى من هناك لتشكّل في النهاية، ومعاً، صورةَ الوطن المسلوب. وهنا تبدو كلٌّ من المفردات التي يشتمل عليها هذا النسخ مؤشراً على الوطن (الأصل). ترتكز عدسة شبلي في هذه السلسلة على التقاط الصور من مسافات بعيدة، في إحالةٍ إلى الحالة الجمعية للاّجئين الفلسطينيين، ووحدة حالهم. كما تعيد في عدد منها تصوير الصور الملتقطة في أزمان سابقة، كأنما تعيد إحياء الصورة وتجددها مرة أخرى، فالصورة القديمة، لم تعد كذلك بعدما تم إحياؤها مرة أخرى ضمن إطار لوحة جديدة، وهو ما يشير إلى تبييت الحدث والتذكير به على الدوام. تقترب كاميرا أحلام شبلي من تفاصيل المكان في شكل أكبر في سلسلة «الوادي» التي التُقطت عام 2007 في قرية عرب الشبلي، منطقة الجليل الأسفل، وفيها تصوّر الفنانة العلامات والموتيفات والرموز ذات الدلالة التاريخية، مثل الشجرة التي شهدت صلحاً مع يهود أهل مسحة بعدما قتل أحدهم رجلاً من عرب الصبيح، وكذلك الصور التي تُظهر المكان الذي شهد واقعةً بين عرب الصبيح ويهود من كيشل، سقط فيها شهداء من عرب الصبيح. هذه الصور، على رغم نأيِها عن المشاهد المباشرة التي تصوّر الموت أو الحرب أو الدمار، تمنح المرء إحساساً بالرعب المتأتي من عملية استرجاع الذاكرتَين، البعيدة والقريبة، لشريط طويل من أحداث العنف والقتل الملطّخة بالأحمر، وكأن الصور تُشعل فتيل الذاكرة. ومع مراعاة اختلاف الخبرة والتجربة المختزنة بين شخص وآخر، إلا أن الخيوط تلتقي في النهاية وتتوحد في ما تستثيره من مشاعر تبعث على الضيق والأسى، مستكشفةً فكرة البيت/ الوطن من خلال توثيق الانتهاكات المستمرة الواقعة على الأراضي الفلسطينية منذ النكبة. التركيز على التعبير الجمعي في سلسلة «عرب الصبيح»، أي البيت/الوطن، يتحول إلى ما هو فردي/ المنزل، في سلسلة «الوادي». فقد التُقطت هذه الصور لمنازل من عائلة الشبلي داخل الأراضي الفلسطينية، ومعظمها بُني على أطراف الجبل؛ الذي هربت إليه العائلة بعد أحداث النكبة بحثاً عن مأوى يحميها، وكأنما هدم الجبل ينطوي على تنكُّر لما قام به من جميل إزاء الأهالي، أو ربما يبدو هذا الفعل معادلاً موضوعياً لتقويض فكرة الوطن. وهنا تشير شبلي، في أحاديثها على هامش المعرض، إلى أن كثيرين ممن بقوا في فلسطين تمكّنوا من بناء منازلهم، لكنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بالبيت بما هو إحالةٌ إلى الوطن، وأخفقوا في تعزيز الانتماء إليه، إذ جاء بناء المنزل على ما يبدو، على حساب تهميش فكرة البيت/الوطن، في وقتٍ فقدَ فيه منزلَه مَن حاولَ القبض على الوطن.