لم يحظ مفهوم «الاستقلال الثاني» الذي ظهر في العقد التاسع من القرن الماضي، كتسمية لتنامي المطالب الديموقراطية في بلدان أفريقية، بشيوع يذكر في العالم العربي، على رغم ما يبدو من ملاءمته للربط بين تطلعات الديموقراطية عربياً وبين تجربة «الاستقلال الأول» (عن الاستعمار) التي تحوز شرعية تأسيسية في الثقافة السياسية العربية. غير أننا نميز استقلالاً ثالثاً لم يسجل في أي وقت حضوراً يذكر في الثقافة والتفكير السياسي العربي الحديث والمعاصر، ومن شأنه أن يلقي ضوءاً على مصير الاستقلالين الأول والثاني، والأخير بخاصة: استقلال الدنيا، أو الاستقلال عن السلطان السماوي. وتمييزاً عن وجهين للاستقلال السياسي، عن الاستعمار وعن الاستبداد، نسمي الاستقلال الثالث الاستقلال الأساسي. والواضح أن نزاعات ومطالب تحيل بصورة ما إلى الاستقلالات الثلاثة هي التي تغذي في السنوات الأخيرة نقاشات او تفكير أطياف المثقفين العرب عموماً. *** معلوم أن مطالب الديموقراطية وصعود الحركات الإسلامية تزامنت في المشرق. بعد نحو عقد، وبخاصة مع انهيار الشيوعية في مستهل العقد الأخير من القرن العشرين، ظهر للعيان انقسام النخب الثقافية والسياسية العربية التي كانت توحدت تحت عناوين يسارية عامة إلى جناحين. جناح أول يركز على وقائع الاستبداد السلطوي ويوظف في مفهوم الديموقراطية، وجناح آخر يركز بالأحرى على أخطار الأصولية الإسلامية ويوظف في مفهوم العلمانية. هذا الانشقاق العميق في أوساط الطيف السياسي والثقافي المستقل كان في مصلحة الاستبداد الحكومي الذي سيبدو في عين قطاع من النخبة المثقفة حلاً أو ما يقاربه. كانت حركات إسلامية متنوعة تبدو بحق خطراً مهدداً في عين قطاعات من مجتمعاتنا، أياً تكن درجة تجانسها الديني والمذهبي. ولما كانت المجتمعات العربية كلها، المشرقية بخاصة، تعددية دينياً ومذهبياً، فإن صعود الإسلاميين سيثير مشكلات طائفية عسيرة، ترفع الطلب الاجتماعي على «الدولة القوية». لكن التعدد الديني والمذهبي الموروث ليس ضرورياً لتفجر حساسيات طائفية أو ما يشبهها. يكفي أن تتفاوت عتبات تماهي السكان بالدين حتى يثير صعود الإسلاميين تمايزات ومنازعات في أوساطهم، أي أيضاً استقطابات وتماهيات مضادة. والتفاوت هذا محقق في أكثر مجتمعاتنا تجانساً بفعل اندراجنا المحتوم، والمرغوب، في الحداثة، وما تمخض عنه من تمايزات اجتماعية وثقافية متنوعة. على أن حضور «الإسلام السياسي» هذا هو الوجه الظاهر لشرط خاص بالعالم الإسلامي، لا سيما العربي، يتمثل في الحضور الكثيف للإلهي والمقدس في الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية في بلداننا، وفي مطالبة مجموعات خاصة بالسلطة العمومية باسم المقدس. وهذا الشرط يثير سؤالاً حول استقلال العالم الأرضي عن السماء والعالم الآخر. وفي ثقافة لطالما هيمن فيها الدين، مثل ثقافتنا، من المشروع التساؤل عما إذا كان يمكن مفهوم الحرية أو مثالها أن يتكون من دون الصراع مع مثال التبعية أو العبودية الديني. هذه معركة لم نخضها، مع ما هو معلوم من صفة جمعية وسياسية قوية وسهلة الاستنفار للإسلام. كانت النتيجة أن بقيت متيسرة إمكانية زج الإلهي في العالم الدنيوي، وأن تلتبس بأشكال سياسية وأيديولوجية متنوعة، لا يفي أي منها بمتطلبات الاستقلال الأساسي. لكن شرطاً بنيوياً آخر أسهم في إضعاف فكرة الاستقلال الثاني: الحضور الكثيف لقوى دولية مسيطرة في حقبة ما بعد الحرب الباردة التي أطلقت عالمياً موجة ديموقراطية قوية في كل مكان، عدا بلداننا. كثيراً ما يشار إلى دور إسرائيل، مدللة الغرب ودولة الاستثناء العالمية، في تعزيز الحضور الغربي في المنطقة. وكذلك دور البترول، الشريان المغذي للتكنولوجيا في بلدان الغرب الصناعية. وقد نضيف القرب الجغرافي من الغرب الأوروبي، وحساسيات دينية وثقافية قديمة تشحذ الحساسية حيال الحضور الغربي، القوي فعلاً. محصلة تأثير هذا العامل أن المطالب المتصلة بالاستقلال الأول تبقى حية وقوية في هذه المنطقة، حاضرة بقوة في الثقافة السياسية وفي السيكولوجيا السياسية وفي الذاكرة الثقافية العامة للعرب. ولن تتأخر نخب الحكم في بلداننا وأي أفراد طامحين أو مجموعات متلهفة للفوز بشرعية سريعة عن الضرب على أوتار تلك السيكولوجيا والذاكرة والثقافة السياسية. القصد أن فكرة الاستقلال الثاني مرشحة للتآكل تحت تأثير غياب الاستقلال الثالث، الأساسي، الذي كان من شأنه توليد ثقافة ولغة وشخصية حديثة متحررة؛ وكذلك بفعل قوة ضغوط ومطالب تنتمي إلى مجال الاستقلال الأول. ويبدو هذا وضعاً ملائماً جداً لازدهار الاستبداد لا الديموقراطية في بلداننا. فعلى تدنٍّ مشهود لكفاءتها، تحوز نخب الحكم لدينا هوامش مناورة واسعة على ثلاثة مستويات: مستوى العلاقة بين الأرض والسماء، أو ما يتيحه تفاوت تصور الدين والعلاقة به من فرص للتلاعب بمعانيه وأجهزته ورجاله؛ ومستوى العلاقة بين الجماعات المحلية التي تتفاوت عتبات تماهيها في «الدولة» وفي الدين وفي «الحداثة»، ما ييسر التلاعب بها كلها؛ ومستوى العلاقة بين المجتمعات المحلية والمراكز الدولية النافذة (يقال للمراكز الغربية إن الأصوليين الإسلاميين هم البديل الوحيد منا، ويقال لعموم المحكومين إننا نمانع القوى الاستعمارية الغربية). وهذا كله مناسب لإضعاف أية أفكار ومطالبات متصلة بالاستقلال الثاني. *** في المجمل، لدينا ثالوث قوى، الغرب والدولة والدين، تطرح مقابلها مطالب الاستقلال الأول الوطني، والاستقلال الثاني الديموقراطي، والاستقلال الثالث، الأرضي أو الأساسي. لقد شاءت ظروفنا التاريخية أن تترتب هذه الاستقلالات زمنياً بصورة معاكسة لترتيبها من حيث الأهمية، بل أن تسهل تأليب بعضها ضد بعض ليبدو تطلب الاستقلال الأول دافعاً إلى مزيد من التبعية الغيبية ومن الاستبداد السلطوي، وتطلب الديموقراطية منفصلاً عن مثال للحرية لا يتكون إلا عبر الاستقلال الأساسي، وتطلب الاستقلال الأساسي غير مبال بالتبعية لكل أنواع الأقوياء، المحليين والدوليين. الشيء الثمين في رد الديموقراطية والدنيوية والخلاص من الاستعمار إلى استقلال متعدد الوجوه هو أنه يبرز وحدة تجربة الحرية. لكن يتعين تخليص مدرك الاستقلال المشترك بين هذه الوجوه الثلاثة من أية توظيفات أيديولوجية أو سياسية مباشرة، تسخّر مفاهيم تحررية لغايات ضيقة وغير تحررية. وكذلك من أية قراءات خطية أو تاريخانية تقيم علاقة حتمية بين أي تقدم يتحقق على أحد المستويات وما يتحقق على المستويين الآخرين. نميل إلى أن استقلال العالم الأرضي هو الأساسي، لكن إن لم نحوّله إلى أسطورة خلاصية كلية، وإن حرصنا على الروح الدنيوية التي نأملها في الأصل منه، يحوز كل من الاستقلال الديموقراطي والاستقلال الوطني استقلالاً ذاتياً مؤكداً عنه.