العربي «الغاضب» غضباً عاتياً، والعائش في الغرب، نموذج لا يقتصر على أمراء اللحى الأصوليين، ولا على العامة من انصارهم السائرين في خطاهم. بل يغطّي ايضا مثقفين واساتذة في جامعات ذاك الغرب. ليسوا كلهم اسلاميي الهوى، وبعضهم يساري تقليدي. صحيح ان عدد هؤلاء تضاءل امام الموجة الدينية-الهويتية العارمة. لكنهم حاضرون، يعتزون بابقاء شعلة فكرهم الغاضب حية. في الفكر وفي «الممارسة» ايضا. وهذا مصدر آخر للاعتزاز. واليكم قصة غاضب يساري تقليدي شارك في مناظرة «فكرية» مع ديبلوماسي اسرائيلي في احدى جامعات اميركا. وهي مروية بلسان صاحبها، مدعّمة بشريط فيديو على «يوتيوب» يصور المناظرة كلها. فهي نموذج يُقتدى للغاضب العربي، في وجه ممثل الصهيونية الاجرامية. اذاً يروي «غاضبنا» موقعة المقاطعة التي انتصر فيها على عدوه ممثلا بديبلوماسي اسرائيلي في مناظرة جامعية. يعني: يحضرها اساتذة وطلاب، هم خيرة المجتمع. بغضب ظافر ينقل الينا الشروط التي وضعها على ادارة الجلسة: ان تكون «الدعوة جامعية» (ما هي حصانة الجامعة؟). وان لا يتم الإخلال بشروط المقاطعة أثناء المناظرة نفسها، ولهذا يدخل في نقاش عبثي مع مديرة الجلسة بحيث «لا يمكن ان أجلس مجاوراً الاسرائيلي» على الطاولة. لا يفصح صاحبنا عن الحل الذي قبلَ به لهذه المعضلة؛ لكن شريط «اليوتيوب» يشير بوضوح الى ان الحل ل»مجاورة» ممثل العدو هو ان تجلس مديرة الجلسة بينهما، في الوسط بين غاضبنا وبين الديبلوماسي الاسرائيلي! هذا عن المجاورة الجغرافية، عن معنى مقاطعة العدو جسدياً. فتكون بضعة الميليمترات هذه، الفاصلة بينهما، هي الحل لإشكالية المناظرة مع عدو «لا يعترف به»... اما المقاطعة بالنظر فالأمر الأكثر طرافة. يعتزّ «غاضبنا» بمأثرة المقاطعة بالنظر، بهذه الحاسة من حواسنا الخمس؛ فيقول بشيء من المهابة والفصاحة: «ناظرتُ رجلا لم ارَه ولن تقع عليه عيناي قط. لم انظر الى الرجل ولم ادعْ ناظري يقع عليه». وفي المقاطعة بحاسة اللمس، يتكرر الأمر نفسه: «وقف امامي رجل (أي الديبلوماسي الاسرائيلي) لم انظر اليه، اذ كنت احدّق في الفراغ: رأيتُ يدا ممدودة نحوي وسمعتُ صوتا يقول «تشرفت بالمعرفة بروفسور، انا فلان». وحدّقت في الفراغ من دون حركة ولا نظر وبلا تعابير. أعاد الكرة ومد يده من جديد (...) لن اصافحه». وعذرا للاطالة لكن الامر يستحقّ ذلك. اليس كذلك؟ خاصة اذا أُردف بما استنتجه «غاضبنا» من ان عدوه «سيتيقّن اكثر خلال المناظرة من كوني لن اعترف بوجوده ولن انظر اليه مرة واحدة»... وذلك في غمرة إقناع نفسه بأن مشاركته في المناظرة لا تلغي التزامه «بالمقاطعة الشاملة والتامة والكاملة والمطلقة (المطلق مرة اخرى!) مع الكيان...» الصهيوني. ولكنه لا ينْتبه الى انه حين يستنفر كل حواسه من اجل مقاطعة تكون «شاملة» و»مطلقة»، يكون الأجدر به ان يستنفر بقية الحواس، خاصة السمع والشم. فيكون بذلك متّسقا مع اطروحاته، عمليا ونظريا. فلا يكتفي بتعبئة نظره ولمسه، بل يجنّد ايضا انفه واذنه... لا يتطلع ولا يصافح، ولكنه يُفترض به أيضاً ألاّ يشم ولا يسمع. لكنه ما دام قد فعل هذا فلم يسدّ أذنيه ولا أنفه، فالمعنى أن المقاطعة لم تعد «شاملة» و»مطلقة»!؟ مناظرة الغاضب العربي المقيم في اميركا لا تقتصر على هذا العبث. كل بهارات الفكر «المقاوم» مرْشوشة فيه. الثأر مثلاً: فالمناظرة يفهمها «غاضبنا» بوصفها ثأراً، فيقول «سررت بلقاء التلميذ الفلسطيني الوحيد في الجامعة. أشعرني وجوده بأن الحمل ثقيل: ويجب ان انتقم له، ولو على المنبر». فيقارن، متباهياً، بين نفسه وبين المناظرين العرب الذين سبقوه. لم يقاطعوا مثله، لم يغضبوا... دون المستوى المطلوب من الغاضب. فوق انهم، لم يكونوا مثله، ايضاً، يجيدون الانكليزية بطلاقة، وكانوا خانعين يستدرون شفقة الغاصبين الظالمين المجرمين. لا هو ليس مثلهم، هو فعلا غاضب من المجازر الاسرائيلية. وغضبه يفاخر به، ويغذّيه. غضبه وحده يعطيه الحق في المطالبة بالقصاص. قصاص الذين اعتدوا واغتصبوا الارض، فضلا عن المتخاذلين الجبناء الخونة، من ابناء ما لا يمكن تسميته ب»الوطن»... إذ هم الذين سمحوا لأولئك بالاعتداء والاغتصاب. ويكون نصيب نائبة لبنانية من القصاص العادل، حلق شعرها... كما فعل المقاومون الفرنسيون بعد التحرير. قصاص مكرّر (ألم يضجر منه؟). يرى انه سجل انتصارا على الديبلوماسي الاسرائيلي، لأن هذا الاخير شعر بحقده ورغبته في الايذاء، اي ايذاء... فيقول الاسرائيلي عن «غاضبنا» انه «يرفض ان يؤنْسنني!» (يعاملني كانسان). والغاضب يحب غضبه، يرى انه شرعي، شعبي «يحاكي»، كما يقول، «الغضب الشعبي العربي في رام الله وخارجها». تغذيه المناظرة هذه، فيقول: «التجربة (في المناظرة) غنية بدلالاتها. إن غضبا دفينا يعتمر صدورنا. نحن الذين نشأوا على هدف تحرير كل فلسطين». يخرج من المناظرة، مع ذلك، «قانطاً حانقاً: بصرف النظر عن حسابات الفوز والظفر». وكيف نعرف هذه الحسابات؟ ما هي مقاييس النجاح والفشل في مناظرة كهذه؟ المؤكد ان صاحبنا، بصفته غاضبا، سوف يكون انتصر على عدوه بأن أفرد له المزيد من الأبلسة، ومن الالغاء لإنسانيته... مثل المراهقين تماماً. الطرْفة الاخرى: ان «غاضبنا» لا يقبل ان يوصف خطابه ب»الخشبي». وهو في هذه النقطة ليس مخطئا بالمطلق. فعندما لا يزال، كما يقول، متمسّكا «بلاْءات الخرطوم التي فرضها الرأي العام العربي على القادة العرب المهزومين الانهزاميين»، «لاءات» عمرها اربعة عقود...، عندذاك لا تكون صفة «الخشبية» وصفا مطابقا لخطابه، بل تكون صفة «المُفوَّت»، المصاب ب»التفويت»، هي الأصلح. والتفويت هو النظر الى ما نحن بصدده في الحاضر بموجب تصورات ورؤى مستنْبطة من معطيات ماض رغائبيّ ومتخيَّل. تماماً مثل الاسلاميين، الغاضبين ايضاً، والمعطلة ملَكَة تفكيرهم. هنا، الأمر مخلوط بخلْطة يسارية تقليدية. كيف يستطيع ان يفكر من يتوقف حنقه او غضبه عند مرحلة تجاوزتها المعطيات الراهنة؟ كيف يستطيع ان يعيش، ان يعمل، ان يمشي، ان يقود سيارة...؟ وهو على هذه الوتيرة من الغضب الدائم؟ من اين له ان ينتج فكراً، وهو على هذه الدرجة من التقشّف الفكري والثقافي بالرغم من عشرات الكتب التي يقرأها للمقال الواحد... تفعيلا لغضبه، واقناعا لنفسه ولقرائه بالمزيد من الصمود في الغضب وعدم الإنجرار خلف إغراءات العقل المثبّطة للهمَم؟