كانت اليونان من الدول القليلة التي عارضت قرار الاعتراف بإسرائيل عام 1947، وكانت الدولة الأوروبية الوحيدة في هذا الموقف. وخلال التصويت في 11 أيار (مايو) 1949 على قبول إسرائيل عضواً في الأممالمتحدة، فضلت أثينا الامتناع عن التصويت، على رغم أنها كانت اعترفت بالكيان الإسرائيلي «دي فاكتو» بتاريخ 18 آذار (مارس) من العام ذاته. ويرجع الأكاديمي الإسرائيلي أميكام نحماني، أسباب البرودة اليونانية تجاه إسرائيل في خمسينات القرن الماضي إلى علاقات أثينا القوية مع العالم العربي، وبخاصة مع مصر، التي كانت تضغط على اليونان لعدم الاعتراف بإسرائيل مطلقاً، كما أن الجالية اليونانية في مصر كانت تضغط بقوة على أثينا لعدم التراجع عن موقفها القريب من العرب. ومع بداية الأعمال الحربية، منعت اليونان مرور الأشخاص والعتاد عبر أراضيها نحو إسرائيل. كانت هناك عوامل أخرى غير وجود الجاليات اليونانية في مصر وغيرها من الدول العربية، فقد كانت لليونان مصالح اقتصادية كبيرة مع العالم العربي، وهي كانت بحاجة إلى النفط العربي الرخيص، فيما كانت لها شركات إنشاءات حصلت على مشاريع كثيرة وضخمة في العالم العربي. كما كانت القضية القبرصية تلعب دورها، فقد كانت اليونان تحتاج دعم العرب في الأممالمتحدة في القضية القبرصية، فيما كانت الأنظمة العربية تحافظ على حليف مهم في المتوسط. تزامن الحكم العسكري في اليونان (1967- 1974) مع حرب الأيام الستة بين العرب والكيان الإسرائيلي. ويربط بعض المراقبين بين قيام الانقلاب العسكري الذي وقع في اليونان بتاريخ 21 نيسان (أبريل) 1967، وبين تلك الحرب التي غيرت الموازين في المنطقة. وفيما تقول أصوات عربية إن اليونان تعاونت خلال الحرب مع الأميركان وإسرائيل في ضرب مصر وسورية بتقديم مساعدات لوجيستية من القواعد الأميركية في اليونان، تقول الرواية اليونانية إن اليونان وقفت على الحياد ولم تسمح باستخدام أجوائها لضرب العرب. خلال سنوات السبعينات شهدت اليونان نفسها عمليات تصفية متبادلة بين الموساد الإسرائيلي ومنظمات فلسطينية، حاولت أثينا خلالها قدر المستطاع تجنب آثار تلك العمليات. وفي بداية السبعينات أيضاً، بدأت عملية دخول كبيرة لطلاب عرب شكلوا اتحادات طلابية نشيطة. عمل الطلاب الفلسطينيون على التقريب بين زعيم المعارضة آنذاك أندرياس باباندريو وزعيم منظمة التحرير ياسر عرفات. وتكللت جهود الطلاب بعقد لقاء بين الطرفين في دمشق برعاية الرئيس الراحل حافظ الأسد. الوجود العربي الرسمي لم يصل إلى القوة المطلوبة بسبب الخلافات العربية الرسمية، على رغم وجود مكتب للجامعة العربية ومكتب للمقاطعة وبنوك وغرفة تجارة عربية يونانية ومدارس عربية. إضافة إلى تأييدها منظمة التحرير، كانت لأحزاب اليسار اليونانية علاقات جيدة مع بعض الأنظمة العربية، مثل نظامي البعث في العراق وسورية ونظام العقيد القذافي في ليبيا. وكانت فترة حكومة كوستاندينوس كرمنليس (1974- 1981) فترة تأسيس علاقات بين اليونان والعرب. لكن كرمنليس حصر اهتمامه بالعلاقات التجارية والحفاظ على مصالح اليونان وجالياتها في المنطقة، ولم يدخل في الصراعات السياسية بين العرب وإسرائيل أو الخلافات العربية العربية. وشأن معظم القادة الأوروبيين، أيد كرمنليس اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها السادات مع إسرائيل عام 1978، لكنه لم يستطع تأييد مصر التي قاطعها معظم الدول العربية آنذاك. كانت علاقات اليونان الاستراتيجية، بعد رحيل السواد الأعظم من جاليتها من مصر، قد انتقلت إلى بلاد عربية أخرى، مثل العراق والسعودية والكويت وليبيا والجزائر. باسوك في السلطة استلم حزب «باسوك» السلطة نهاية عام 1981. وتطرق باباندريو إلى القضية الفلسطينية في خطابه أمام البرلمان اليوناني لنيل الثقة. كانت القضية الفلسطينية حاضرة تقريباً في كل خطاباته في تلك الفترة. وتحدثت صحف اليمين عن دعم مادي قدمه نظام عربي لحزب «باسوك» أعانه على الفوز. خلال الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982، شبّه باباندريو الإسرائيليين بالنازيين، فيما سعت حكومته لإدانة إسرائيل في المحافل الدولية والأوروبية. ظهر التضامن اليوناني الشعبي والرسمي مع منظمة التحرير على أشده، واضطرت الأقلية الإسرائيلية في اليونان إلى إصدار بيان عن «الإرهاب الفلسطيني الذي صبرت إسرائيل عليه طويلاً». لكن الشعور اليوناني العام بقي مناصراً للفلسطينيين بقوة. وبعد مجازر صبرا وشاتيلا كان اليونانيون أول شعب يتحرك في تظاهرات تنديد عارمة. لم تبتلع إسرائيل هذا التضامن مع الفلسطينيين، فأطلقت المنظمات الصهيونية تهمة معاداة السامية على باباندريو، وبدأت حركةَ مقاطعةٍ للسفن اليونانية في المرافئ الإسرائيلية، رد عليها اليونانيون بمقاطعة مماثلة. كما أثارت مواقف الحكومة اليونانية حفيظة المعارضة اليونانية، التي اتهمت باباندريو بإقحام اليونان في حرب لا شأن لها بها. ومورست ضغوط أوروبية على باباندريو لتحسين علاقاته بإسرائيل لكنه لم يستجب لها. يقول الكاتب الصحافي يورغوس ديلاستيك إن عرفات كان أول زعيم أجنبي يزور أثينا في كانون الأول (ديسمبر) 1981 بعد فوز «باسوك» في الانتخابات، حينما كان العرب يتحدثون عن «جمهورية اليونان العربية». ويلاحظ ديلاستيك أن الجاليات اليونانية في الدول العربية لم يكن لها الموقف نفسه، فاليونانيون في مصر كانوا غير مؤيدين لنهج عبد الناصر، وكان معظم أفراد تلك الجاليات ينتمي للتيارات اليمينية. ويعتبر ديلاستيك أن اليونان لو كانت معادية للعرب آنذاك، لكانت تركيا طرحت قضية الاعتراف بشمال قبرص كدولة مستقلة على المؤتمر الإسلامي، حيث كان سيحظى بتأييد الدول العربية والإسلامية. أستاذ العلوم السياسية ستيفانوس فالياناتوس اعتبر أن حزب «باسوك» لما وصل الى السلطة كان يجب أن يحتفظ بشيء من صورته الراديكالية، وكانت القضية الفلسطينية مفيدة في هذا الأمر. ويضيف: «لقد كان في الجسم الديبلوماسي اليوناني المحترف لوبي موالٍ للعرب لكنه كان واقعياً». ويقول إن حزب الديموقراطية الجديدة لم يحسن علاقات اليونان مع إسرائيل في تلك الفترة، فيما جاءت أفضل فترة للعلاقات اليونانية الإسرائيلية عام 1986 مع «باسوك». مع خروج قيادة المنظمة ومقاتليها من بيروت بسفن يونانية، اختار عرفات توجيه رسالة للعرب من خلال المرور عبر اليونان، التي استقبلته رسمياً وشعبياً بحفاوة بالغة. ويبدو أن حماسة باباندريو لمناصرة القضايا العربية، أو نزعته الثورية عموماً، فترت بعد عام 1983. وكان واضحاً أن اليونان كانت تخطط للاعتراف بإسرائيل كنوع من التوازن في علاقاتها بدول المنطقة، وفقاً للمنطق الأوروبي. وفي 24- 11- 1987، زار وزير الخارجية الاشتراكي كارلوس بابولياس تل أبيب بهدف التمهيد للاعتراف الكامل بإسرائيل، لكن اندلاع الانتفاضة الأولى آنذاك أخر العملية. في الفترة نفسها زار وزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز اليونان. جاء الاعتراف اليوناني الرسمي بإسرائيل في 21 أيار(مايو) 1990، أثناء حكم حزب «الديموقراطية الجديدة» اليميني بزعامة كوستاندينوس ميتسوتاكيس. منذ ذلك الحين أصبحت محاولات التقارب علنية، لكن هذا لم يمنع عقد لقاءات سرية بين الطرفين. كما ظهر دور لليونان في التقريب بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. تولى كوستاندينوس سيميتيس (باسوك) الحكومة خلال أعوام 1996- 2004 ليدير ظهره للعرب تماماً. كانت وجهته أوروبية بشكل بحت، حتى أنه لم يقم بأي زيارة لأي دولة عربية خلال فترة حكمه. في المقابل لم يطور علاقات اليونان الرسمية مع الكيان الإسرائيلي. كذلك لم تشهد فترة حكم كوستاندينوس كرمنليس (2004- 2009) أي تطور نوعي في العلاقات اليونانية الإسرائيلية. وقد بذل كرمنليس جهداً واضحاً في تطوير علاقات بلاده مع روسيا، ما أزعج الولاياتالمتحدة. صيف عام 2010، جاءت زيارة رئيس وزراء إسرائيل لليونان بدعوة من نظيره يورغوس باباندريو، نجل أندرياس باباندريو، مفاجئة للجميع. كانت تطبيعاً سريعاً من دون مقدمات. وبعد شهر تقريباً، رد باباندريو الزيارة لإسرائيل. الرواية المتداولة تقول إن الرجلين التقيا مصادفة في أحد مطاعم العاصمة الروسية موسكو. لكن هذه الرواية البسيطة لا يمكن أن تشرح الاندفاع الصاروخي للعلاقات بين البلدين في الكثير من المجالات. ويمكن القول إن عملية التحول كانت نتيجة جهود جبارة بُذلت خلال العقود الماضية، قامت بها سفارة الكيان ومناصروه في اليونان. كان الحضور الإسرائيلي واضحاً في كل نشاط يخص منطقة الشرق الأوسط وكانت السفارة الإسرائيلية تعمل في دأب وصمت على كسب المزيد من صنّاع الرأي العام. كذلك كان لبعض وزراء الخارجية جهد شخصي في الموضوع. هذه الصداقة المتسارعة شجع عليها الانقطاع المفاجئ بين الكيان وتركيا بعد حادثة سفينة مافي مرمرة، وكان للوبي اليهودي واللوبي اليوناني - بخاصة في الولاياتالمتحدة- دور في هذا التقارب. أصبح الغاز المكتشف في المياه القبرصية يتسبب بالمزيد من الخلافات والتوتر بين تركياوقبرص اليونانية، ما دفع الأخيرة للتحالف مع تل أبيب. كانت قبرص أجرأ على التحالف مع الكيان، ما دفع اليونانيين المتحمسين للصداقة الإسرائيلية إلى استعجال التطبيع الكامل بين بلدهم والكيان، مستدلين بالنموذج القبرصي، الذي اعتبروه «رادعاً لعدوانية تركيا». وشيئاً فشيئاً أخذ حلف جديد بين اليونان وقبرص وإسرائيل بالظهور. كان منظّروه يشددون على أنه يهدف لحفظ التوازن والاستقرار في المنطقة وليس موجهاً ضد أي طرف. شكلت الأزمة الاقتصادية التي ضربت اليونان منذ 2010 سبباً إضافياً للترويج للتطبيع مع إسرائيل. تحدث المتحمسون عن أن إسرائيل، ومن خلفها اللوبي الصهيوني، ستحلّ أزمة الاقتصاد اليوناني. تحدث الإعلام اليوناني عن تعاون إسرائيلي في كل مجال تقريباً، لكن المجال الوحيد الذي ازدهر عملياً هو التعاون العسكري الاستخباراتي. كان الكيان الذي خسر أجواء تركيا لتدريب طياريه في حاجة إلى بديل. كما تحول قسم كبير من السياح الإسرائيليين إلى اليونان. شكل الربيع العربي وتسلُّم الحركات الإسلامية السلطة عبر انتخابات حرة، عاملَ قلقٍ للغرب عموماً، وكذلك بالنسبة الى اليونان وقبرص، خشية أن تطالب مصر بتعديل الاتفاقيات حول تقاسم حقول الغاز في شرق المتوسط، لذلك شكل التحرك العسكري الذي أطاح الرئيس المنتخب محمد مرسي مخرجاً جيداً لهما. وكانت أثينا أول عاصمة أوروبية ترحب بالرئيس المصري الموقت عدلي منصور في أول زيارة يقوم بها لدولة أوروبية. وقد بذلت أثينا جهوداً لإقناع الأوروبيين بالانفتاح على السلطة الجديدة في القاهرة. سيريزا المخيب للآمال وجاء انتخاب حزب التجمع اليساري الراديكالي «سيريزا» ليحيي آمال مناصري القضية الفلسطينية، لا سيما أن الحزب معروف بمواقف جيدة لمصلحة القضية. لكن مرور الوقت خيّب آمالهم، إذ بدا أن الحكومة اليسارية، التي كانت جهودها موجهة كلياً للتفاوض مع الدائنين، وجدت متسعاً من الوقت لتحسين علاقات البلد مع تل أبيب، وكان ذلك بدافع شخصي من وزير الخارجية نيكولاوس كوتزياس ووزير الدفاع بانوس كامينوس. ومع إعادة انتخاب سيريزا وعودة الوزيرين المذكورين إلى منصبيهما، يبدو أن تطوير العلاقات مع إسرائيل أصبح من ثوابت السياسة الخارجية اليونانية.