غابت الأحزاب السياسية فتحولت الشاشات المصرية منابر حزبية. وحين باتت الحاجة ملحة إلى تغييرات جذرية، ساهمت الشاشات، تارة في تأجيج الشعور الملح بالتغيير، وتارة بوأده وكتمه حماية للنظام. وبما إن التغيير حدث، والنظام سقط، والشاشات اكتسبت سمعة اعتبرتها الغالبية ذهبية باعتبارها محفزاً من محفزات التغيير، كان من الطبيعي أن تبزغ نجوم فضائية ويتفجر أبطالاً يلعبون دور البطل الأوحد ونجم الشباك الأعتى في نظر الملايين. الملايين التي اعتبرت الشاشات خلال السنوات الخمس الماضية (أي منذ ثورة يناير) ملجأها الأول والأخير للمعرفة والتنوير، وضعت نجوم الشاشات في خانة الخبراء والعالمين ببواطن الأمور. ولكن يبقى الوجه الآخر من صناعة النجوم هو انطفاؤها واندثارها، وكلاهما من صناعة المشاهد. وقف ريهام «لحين» آلاف المشاهدين المتصلين بشبكة الإنترنت ممن شنوا حرباً ضارية على المذيعة المثيرة للجدل ريهام سعيد، وذلك في ضوء وقائع حلقة «فتاة المول»، نجحوا في دفع القناة التلفزيونية إلى وقف برنامجها «لحين». لكن الحين انتهى. فالآلاف أقل من الملايين، والملايين - وإن كانت غير قادرة على التواصل العنكبوتي حيث تدشين الهاشتاغات، وتداول التدوينات، وملء الفضاء الإلكتروني تنديداً بأخلاقيات العمل الإعلامي. لكن العمل الإعلامي ليس نشاطاً عنكبوتياً فقط، على رغم صوته المدوي. ملايين المصريين يرون في ريهام سعيد النموذج كما ينبغي أن يكون. تعرض الحالات المرضية الفقيرة، تتطرق إلى الموضوعات الجنسية المسكوت عنها، تذهب إلى السجون وتعرض قصصاً يشيب لها الولدان، تستضيف فتيات «ملبوسات» يطاردهن الجان، وتستقدم معالجين روحانيين يقومون بإخراج الجان من أجساد الفتيات على الهواء مباشرة. الخلطة السحرية التي تقدمها المذيعة رسخت لها قاعدة شعبية، لا تعنيها «فايسبوك» ولم تسمع عن «تويتر»، لكنها تقترض وتستدين من أجل الصحن اللاقط المثبت على البيت والذي يضمن إطلالة سعيد. الإطلالة المرشحة للعودة بعدما هدأت الفورة تواجه مجدداً ثورة عنكبوتية يلخصها هاشتاغ #حذف_قنوات_النهار_من_الريسيفر، وهو الهاشتاغ الذي ظل ضمن ال «تريند» على «تويتر» ليوم واحد، لكن مجموعة السيدات اللاتي تصادقن في عربة المترو حين علمن به وجهود بعضهم للإبقاء على سعيد في البيت تشاركن في دعاء جماعي بأن «تسخط السماء كارهي سعيد قروداً ونسانيس»، وذلك «ليس حباً في ريهام» كما تؤكد إحداهن، بل «عشقاً لها»! عشق هذا المذيع أو ذاك شعبياً لا يعكس بأي حال حجم مهنيته، أو مقياس أدائه، أو أهمية ما يقدمه، بل يعني قدرته على الوصول إلى قلب المشاهد وعقله، سواء كان ذلك بالدق على أوتار المشاهد الضعيفة أم بالإمعان في تقديم ما ليس معتاداً أو مألوفاً. لذا لم يكن ما قدمه باسم يوسف مألوفاً بالنسبة الى القاعدة العريضة من المشاهدين. السخرية من النظام، والرموز السياسية، والمفاهيم الأيديولوجية وتأليف الأغاني الناقدة للسياسة على إيقاع الأناشيد الوطنية واللجوء للألفاظ «الخارجة» على الشاشة، كلها عوامل جذبت الملايين في بداية الأمر. وبحكم الظروف السياسية التي بزغ فيها نجم يوسف، جاءت انتقاداته اللاذعة بمثابة نسمة هواء عليل للملايين الغاضبة. انتقد نظام مبارك بعنف، فضحك الملايين من قلوبهم. وصب سخريته اللاذعة على نظام الإخوان، فضحك المصريون الكارهون لهم ملء اشداقهم. وحين اعتقد بأن في إمكانه الاستمرار في منهجه الساخر من نظام السيسي، تغير الوضع. وعلى رغم ما يقال عن تعليمات عليا غير مباشرة وتوجيهات سيادية غير مكتوبة بإسكات صوت يوسف الساخر، إلا أن الحكم عليه بالإسكات الحقيقي جاء هذه المرة من الملايين الرافضة للتنكيت على النظام الحالي. ومرة أخرى، ترسخ الهاشتاغات المؤيدة لباسم يوسف والرافضة جهود إقصائه ومحاولات التعتيم عليه لذاتها مكانة متقدمة ضمن ال «تريند» التغريدي. وتكتب النخب الحقوقية والصحافية أعمدة رأي وتدوينات فايسبوكية عن قمع الأصوات وإجهاض الحريات وإخراس الانتقادات، لكن قاعدة عريضة من المشاهدين وجدت ذاتها غير متضامنة مع باسم يوسف على رغم أنه قدم حفلة جوائر «إيمي» ولم تكن منبهرة بتواجده على منصة «قرطاج». ما تسمعه في المواصلات العامة عن باسم يوسف يختلف تماماً عما تقرأه في مواقع التواصل الاجتماعي عنه. «ده حتى دمه ثقيل»، يقول النادل في أحد المقاهي الفاخرة والذي كان ملتقى الرواد الأسبوعي لمتابعة برنامج يوسف وقت حكم الإخوان. يقول: «تبات في حال تصبح في حال. كنا نتلقى حجوزات للأماكن قبل حلقته الأسبوعية بأيام. اليوم يكاد لا يذكره أحد». وفي سياق مشابه، ولكن لعوامل مختلفة، يضرب بعضهم أخماساً في أسداس حيث العجز التام عن تفسير كيف كان مذيعون يتربعون على قمة الهرم التلفزيوني ثم بات شأنهم كغيرهم من العشرات. الإعلامي محمود سعد المنتقل من شاشة التلفزيون الرسمية إلى عدد من الشاشات الخاصة بعد ثورة كانون الثاني (يناير) نموذج لقدرة المشاهد على «تنجيم» المذيع، ثم الإجهاز عليه ودفعه إلى كواليس النسيان. فبعدما كان سعد ملء الأسماع والأبصار في برنامجي «البيت بيتك» و»مصر النهاردة» حين كان لسان حال البسطاء والغلابة والمغلوبين على أمرهم على الشاشات المصرية، وبعد مواجهات على الهواء مباشرة بينه وبين رموز نظام مبارك حول راتبه المليوني، فقد جزءاً كبيراً من شعبيته. النخب المثقفة النخب الحقوقية والأقليات المثقفة والجماعات الفاعلة عنكبوتياً تصب غضبها على القواعد العريضة من المشاهدين حين تشذ عن الأطر النخبوية. فحين يميل المشاهد إلى متابعة الإعلامي توفيق عكاشة، تصب النخبة غضبها عليه متهمة إياه ب «الجهل والسطحية وانعدام المفهومية». وحين يتعاطف مع الإعلامي أحمد موسى الذي كثيراً ما يتعرض لاعتداءات من متعاطفي الإخوان في أثناء تغطياته للرحلات الرئاسية تصوب عليه النخبة سهام الإدانة وظنون العمالة. العمل الإعلامي على الشاشات المصرية لم يعد مجرد توصيل معلومات أو تحليل أحداث. بل بات منظومة سياسية اجتماعية اقتصادية قائمة بذاتها، لها قواعد وقوانين من دون مرجعية مكتوبة أو سابقة معروفة. ربما يصعد نجم هذا المذيع أو ذاك، لكن بقاءه ساطعاً لم يعد في أيدي رجال الأعمال من اصحاب القنوات، أو رجال الدولة من المهيمنين على أجهزة سيادية، أو ناشطي الإنترنت أو نخبة حقوقية أو مجموعة مصالح. الجانب الأكبر من صناعة نجم تلفزيون أو القضاء عليه يقبع في أصابع المشاهدين المصوبة على الريموت. أما المعايير فيبقى الجانب الأكبر منها سراً من أسرار الشخصية المصرية. بين مانديلا والبهلوان جانب آخر فُقد في ضوء الاستقطاب الضاري الحادث في المجتمع حيث توجه شعبي عارم يميل إلى إرجاء المعارضة وتأجيل المحاسبة وتعطيل الانتقاد تحت شعار «البلد مش مستحملة». «تحمل البلد للنقد والاعتراض من عدمه» عبارة سياسية عسكرية استراتيجية من الأكثر تداولاً على ألسنة المصريين. وهي العبارة التي تدلي بدلوها إلى حد كبير في تصنيف الشعبية لنجوم الإعلام. فمن كان بالأمس القريب «بهلواناً» يسخر كثيرون من أدائه، أو «ملكياً» يصنفه بعضهم تابعاً من توابع النظام، أو «مخبراً» معروفاً بعلاقاته الوطيدة بالأجهزة الأمنية، يجد نفسه اليوم ضمن الإعلاميين الأكثر شعبية بين المشاهدين. والعكس صحيح، فكم من إعلامي مصري كاد المشاهدون ينصبونه «مانديلا» التغيير أو «غاندي» الإصلاح أو «غيفارا» التصحيح أو «أنديرا غاندي» التعديل، ثم ما لبثوا أن انقلبوا عليه، لموقف سياسي هنا أو نشاط حزبي هناك أو آراء تلفزيونية عبّر عنها هنا أو هناك.