يوم ثارت الشاشات وزمجرت الفضائيات واحتدمت الأيديولوجيات متخذة من الأثير ساحة للمعركة عرف الجميع أن خطر انقلاب السحر على الساحر بات قريباً. الغاية النظرية من القنوات التلفزيونية هي بث الأخبار وتقديم المعلومات مع قدر من الترفيه. لكن الجميع يعلم أن توجيه الرأي العام، ودعم طرف على حساب آخر، والحشد والتجييش وكل ما له علاقة باصطناع رأي عام مع أو ضد قضية ما هي مكونات رئيسية وإن كانت سرية أو غير مشار إليها خلف كل شاشة من الشاشات. لكن الشاشات في عالمنا العربي تلونت وتشكلت وتعربت في بشكل يوازي البيئة العربية ويناسب الأجواء الحارة ويواكب التغيرات. وفي ضوء رياح التغيير التي هبت على المنطقة وقلبت الأوضاع رأساً على عقب، نالت الشاشات نصيبها من الرياح التي بدأت أعراضها الجانبية وعوارضها العكسية تتجلى هذه الأيام كل في بلدها وفق حجم رياحها واتجاه هبوبها ومقدار الرمال والأتربة المحملة بها أو الأمطار والسيول المنذرة بها. وفي مصر حيث ساهم عددٌ من برامج ال «توك شو» الناجحة في تمهيد الأرض ل «ثورة يناير» الشعبية عبر كشف خروق الشرطة وتعرية العديد من أوجه الفساد في الدولة وفتح أبواب الانتقاد التي ظلت مغلقة فترات طويلة، خاضت القنوات مراحل مختلفة من الأدوار والأنماط والأغراض بين مصفّق ومطبّل للتغيير، ثم متوجّس متريّب من التجديد، وبعدها منقسم بين يمين التمجيد للسلطة الآتية ويسار التشكيك في الجماعة الصاعدة، وأخيراً خوض مهمات قتالية وأخرى دفاعية وثالثة هجومية خدمة لأيديولوجية هنا أو نظام هناك أو خريطة جديدة هنا وهناك. وفي خضم هذه الأدوار التي ضلعت فيها قنوات إقليمية خدمة لمصالحها ومصالح قواها السياسية أخذ بعضهم على عاتقه المشاركة بمهمات إنقاذية على جانبي المعادلة، فبزغت قنوات ومذيعون مشهورون حملوا على أعتاقهم إما مهمة إنقاذ الوطن من براثن الإخوان، أو إنقاذ الوطن من براثن القوى المتربصة بالإخوان. ونظراً إلى كثرة الشاشات المدافعة عن الوطن والهوية والشخصية المصرية من هجمة الجماعات الدينية الشرسة، فقد تم اعتبارها قنوات وطنية تبث برامج دفاعية ذات جهود إنقاذية يقوم بها مذيعون قرروا المغامرة بحياتهم والوقوف في وجه الجماعات المحاولة الاستئثار بمصير البلاد والعباد. بدت هذه مهمة عاجلة لا بد منها. وعرف الجميع أن الشاشات تحولت الى خط دفاع واعتنقت مفهوم القتال حفاظاً على الوطن الذي بدا مهدداً، وهو ما أعطى برامج ال «توك شو» صفة «البرامج الوطنية» وسبغ على مذيعيها تاج «البطولة». في عام 2012 تساءلت مجلة «فورين بوليسي» إن كان مذيعو ال «توك شو» الذين أصبحوا قضاة أو حكاماً للمناقشات العامة والمناظرات - التي كانت شبه منعدمة من قبل - قادرين على حسن إدارة هذه القوة المكتسبة؟ في هذا المقال المعنون «في مصر ما بعد الثورة: برامج التوك شو تعيد تعريف المشهد السياسي» اعتُبِرت هذه البرامج لاعباً أساسياً في استهلال ثقافة المناظرات العامة إضافة إلى نقل لغة السوقة إلى وسيلة ظلت لعقود حكراً على النخبة. واليوم يقف جانب من هذه الشاشات ببرامجها ومذيعيها ومعهم المشاهد أمام سؤال مشروع: لماذا وضع الشارع ملوك ال «توك شو» في خانة الاتهام؟ فهناك من يتهمهم بأنهم صاروا أكبر من الحجم الطبيعي للبشر حيث أصبحوا مسيّرين للسياسات وضاغطين على الوزراء ومحرّكين للأحداث. ومنهم من يرى أنهم يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى الانضمام إلى جوقة الرئاسة رافعين شعار «فيها لأخفيها». وقطاع ثالث من المشاهدين لم يعد يتقبل عقله هذا الكم الهائل من الشتائم التلفزيونية كأسلوب في انتقاد الآخرين، أو توجيه الاتهامات المبنية على أساس تحليلات استراتيجية. وبات من الواضح أن من بين جيوش المذيعين من يتبرع للقيام بمهمات وطنية، أو الهرولة للدفاع عن النظام من دون أن يطلب النظام ذلك. ولم يكتفِ بعض أصحاب الوجوه الإعلامية بتلك الأدوار، فظهر من يحاول أن يؤسس لنفسه مدرسة فضائية في فنون التقديم التلفزيوني. فمن مذيع متأثر بأجواء السيرك حيث عروض بهلوانية وأخرى كوميدية ضمن فقرات الأخبار وموضوعات الحوارات، إلى آخر منفرد بساعات بث برنامجه ليخطب في المشاهدين، سامحاً لنفسه بمطالبة هؤلاء بمغادرة البلاد لو لم تعجبهم الأوضاع ومناشداً أولئك الاستحمام، إلى ثالثٍ ناهلاً من قاموس الشارع ومفردات المقاهي وأعراف الأرياف ليكون قريباً من رجل الشارع ولصيقاً بثقافته ومتشبهاً بلغته، ورابعاً معلناً أن البرنامج برنامجه وعلى من لا يعجبه محتواه الدق على الريموت وتغيير القناة، وخامسٌ متباهٍ بعدم تنفيذه حكماً قضائياً صدر ضده لسبه وقذفه أحدهم في برنامجه، وسادس متباهٍ بأنه من حفر حفرة لضيفه الوزير أدت إلى استقالته أو بالأحرى إقالته، وسابعة موبّخة سفير دولة على الهواء مباشرة عقاباً له على سياسة بلاده. صحيح أن كثيرين من نجوم الفضائيات وسلاطين ال «توك شو» يلجأون إلى ذريعة سقوط قنوات إقليمية في بحر التهييج والتشويه، وأن غيرها من قنوات الجماعات الدينية لا تألو جهداً في بث أكاذيب وإذاعة تلفيقات بل والتورط في تحريضات مباشرة، إلا أن هذا لا يعني بيع أو التخلي عن أو تجاهل المعايير، لا سيما حين يسفر ضرب عرض الحائط بها عن انتفاخة فضائية مصحوبة بانتكاسة أخلاقية تطل على الجميع عبر الشاشات مشوبة بذرائع غير مهنية ومتطرقة إلى موضوعات افتراضية ومؤثرة بالسلب ليس فقط في علاقات خارجية بل وفي تقويمها شعبياً والتبرؤ منها رسمياً. ويبدو أن المطلوب والموصوف هو إعادة الشاشات إلى دورها الأصلي وتذكيرها بمهماتها الفعلية وتشجيعها على تصحيح نفسها ذاتياً.