عدلت دينا موعد عودتها من باريس إلى القاهرة حتى تلحق بجموع المؤكدين أن «مصر مش عزبة». واعترفت ريهام على «فايسبوك» بخطئها الفادح وسوء تقديرها البالغ لاعتقادها بأن «الإخوان المسلمين» سيراعون البعد الثوري للبلاد ويحترمون العمق الديموقراطي للعباد. وجهزت ناهد المؤن وكتبت لوحتها بنفسها: «مصر لكل المصريين» قبل أن تتوجه إلى الميدان الذي هجرته تحت وطأة قوى «قندهار» حيناً، وميليشيات المتحرشين حيناً وسيطرة البلطجية دائماً. هذه الوجوه عادت إلى الميدان أمس بعد فترة «بيات ثوري» أطالها بزوغ نجم الإسلام السياسي، وخدرتها أوهام «معلش يا كارولين هم أربع سنين واخدينهم مضطرين» (وهي الأغنية العنكبوتية التي انتشرت وقت الصراع الرئاسي المحموم بين مرشح «الإخوان المسلمين» محمد مرسي ومنافسه أحمد شفيق رئيس آخر حكومات الرئيس المخلوع حسني مبارك)، وأمعن في تعميقها عصير الليمون الذي تجرعته قوى ليبرالية ويسارية واشتراكية وفاصلة بين الدين والسياسة ليساعدها على هضم الحكم «الإخواني». العائدات والعائدون إلى ميدان التحرير أمس عادوا بعد أسبوع من الدروس المستفادة، والعبر المكتسبة، والضغوط المكتنزة. فجمعة «كشف الحساب» التي حولها أنصار الرئيس إلى «جمعة تأديب المعترضين» ضرباً وقذفاً بالطوب وهدماً للمنصة لقنتهم درساً قاسياً وعبراً زادتهم قوة. أيقنوا أن المعارضة في زمن «الإخوان» ما هي إلا «سوء توقيت وشح كياسة وانعدام لياقة» في نظر رموز الجماعة، و «محاولات لإفشال الرئيس ومؤامرات لإجهاض النظام ومواءمات لإعادة الفلول» في نظر قيادات حزبها «الحرية والعدالة»، و «قلة تهذيب وانعدام أدب وخروج على الدين» كما قيل للجحافل المؤيدة ل «الإخوان» والجموع المناصرة ل «الحرية والعدالة» والمجموعات المحبة للحكام الذين «يراعون ربنا في الشعب». صحيح أن مجريات الأمور الإعلامية «الإخوانية» سارت على الدرب نفسه الذي سارت عليه في جمعة «كشف الحساب»، فنددت ب «العلمانيين المعترضين»، وشجبت «اليساريين الحنجوريين»، وانتقدت «الاشتراكيين الكارهي النجاح»، ودعت إلى توعية المضحوك عليهم والذين يتم «حشدهم من دون علم أو دراية منهم»، مُرجعةً خروج أولئك البسطاء إلى «انصياعهم لكلمات معسولة غير مرتكزة إلى أسس». الطريف هنا أن القنوات والصحف «الإخوانية» أو المحبة ل «الإخوان» اتبعت مبدأ «داوها بالتي كانت هي الداء»، إذ إنها أعادت تدوير التهم نفسها الموجهة إليها من قبل التيارات الليبرالية واليسارية من حشد للبسطاء وشحن لهم إلى الميدان، وأعادت توجيهها إليهم، مع فارق واحد هو عدم وجود باصات لشحن العائلات الليبرالية إلى الميدان. لكن خطط التأمين وخرائط المسيرات الليبرالية واليسارية تم وضعها في جمعة «مصر مش عزبة» في شكل أكثر حنكة وأعمق خبرة منعاً لحدوث مواجهات قد تجهض تخليص مصر من محاولات جعلها «عزبة»، سواء كانت بحشد أنصار الرئيس لضرب المتظاهرين، أو تجييش الأبواق الإعلامية للنيل من سمعة المطالبين بأن تكون «مصر لكل المصريين»، أو تخصيص الميليشيات الإلكترونية لسب وشتم فاصلي الدين عن السياسة. وشجع تأمين المسيرات الآتية إلى الميدان عودة دينا وريهام وناهد وغيرهن ممن هجرن التحرير بعد انتهاء الموجة الأولى للثورة واتضاح نوايا راكبيها من تزويج للطفلات في سن التاسعة وتأكيد حقوق المرأة لكن من وجهة نظر الإسلاميين الحاكمين وإلغاء القوانين المنصفة للنساء لأنها «أفسدت الأسرة» كما يرى الحكام الجدد. هذه المرة لم تفلح التحذيرات العنكبوتية ل «النساء العفيفات والفتيات الشريفات» بألا تطئ أقدامهن الطاهرة أرض ميدان التحرير حيث النساء غير العفيفات والفتيات غير الشريفات. ومن أعلى المنصة هتفت الناشطة والإعلامية جميلة إسماعيل: «المرة دي بجد مش هنسيبها لحد». كذلك لم تفلح التحذيرات المبطنة والتهديدات المقنعة الآتية عبر القوى الأخرى بأن «الميدان للجميع» و «من حق كل مصري التظاهر فيه»، وهو ما فسره بعضهم بأنه قد يكون تلويحاً بإمكان نزول أنصار الجماعة مرة أخرى لدعم مرسي من على منصة الليبراليين، أو إعادة تأكيد أن «حرية وعدالة مرسي وراه رجاله» أو غيرهما من الترجمات «الإخوانية» لحق كل مصري في التظاهر، وتحديداً في الأماكن التي تتظاهر فيها القوى المعارضة. القوى المعارضة استمرت في إثارة استياء مذيعي قناة «مصر 25» التابعة ل «الإخوان» ورسائل مشاهدي قناة «الجزيرة مباشر مصر» الإخوانيين. المذيع الذي يضرب كفاً بكف متعجباً من أولئك المعترضين والمتظاهرين الذين أدمنوا الاعتراض بغرض الاعتراض، حتى أنهم في رفضهم للدستور «لم يطرحوا أي بدائل، وعلى الأرجح لم يقرأوا النصوص المعترضين عليها أصلاً» كان مثار أحاديث عدة في الميدان. كثيرون حاولوا تفسير ما قاله، لا سيما أن نسبة كبيرة من نجوم الفضائيات الحاليين هم من النخب الليبرالية واليسارية التي تجوب البرامج حاملة مسودة الدستور ومفندة بنوده ونصوصه المرفوضة طارحة البدائل. بعضهم قال: «مسكين، يبدو أنه لا يملك الوقت ليشاهد البرامج الأخرى»، والبعض الآخر رجح أنه «يعرف الحقيقة لكن الأوامر الصادرة من مكتب الإرشاد تمنعه من قولها». لكن أحداً لا يستطيع منع المشاهدين من إرسال الرسائل القصيرة لتركض أسفل شاشة «الجزيرة مباشر مصر» التي على ما يبدو لا تستقطب سوى مؤيدي الجماعة وأنصار الرئيس. فمن «وجه قبلي ووجه بحري وراك يا مرسي» إلى «الحمد لله الذي كشف الوجه الفلولي لليبراليين في الميدان» مروراً ب «سر على بركة الله يا مرسي ولا تلتفت إلى الحاقدين في التحرير». لكن الموجودين في التحرير لم تبد عليهم علامات الحقد بقدر ما اتضحت ملامح القرف. داليا التي نزلت الميدان مع زميلات الجامعة قالت: «لست مسيسة ولا متأسلمة. أنا قرفانة وصديقاتي كلهن يعتريهن القرف من الوضع الراهن ومحاولات تقسيم المصريين». وفي محاولة للتخفيف من حدة القرف، قالت إحدى صديقاتها: «المصريون شعب واحد بكل فئاتهم وأشكالهم وألوانهم. وإن لم يوحدنا الدستور أو الرئيس أو المصير، فإن حبستنا في السيارات والباصات يومياً تحت وطأة الشلل المروري الذي ضرب القاهرة في مقتل سيوحدنا». وانصرفن صوب الميدان وهن يعضدن مقترح تغيير اسم مصر من «جمهورية مصر العربية» إلى «جمهورية مصر القاعدة في العربية».