ريهام سعيد شعار المرحلة. ربما ليست مذيعة المرحلة، أو قادتها الرغبة في الإثارة خارج السيطرة، أو دفعها محبوها إلى المضي قدماً في حقل ألغام فأصابها، لكنها تبقى الشرارة التي أشعلت فتيل أزمة الإعلام. كشفت عورات بعضهم الإعلامية، ومآرب آخرين التجارية ومآل كثر على الشاشات الفضائية. بعضهم ممن يدلي بدلوه على الشاشات في شأن المذيعة المصرية ريهام سعيد، صاحبة البرامج المثيرة للجدل والجاذبة للمشاهدة والقضية المعروفة إعلامياً ب «فتاة المول»، ينصّب نفسه حامي حمى الصدقية، ورافع راية المهنية، والبديل الأفضل والخليفة الأمثل لمدرسة ريهام سعيد التلفزيونية. سجل حافل وعلى رغم أنّ سجل سعيد حافل بكل ما لا يلذ ولا يطيب من تصريحات عنترية واتهامات عنجهية، إلا أن الهجمة الكبيرة عليها هذه الآونة مجرد اختزال لمعضلة الإعلام المرئي التي تنضح بأسوأ ما فيها منذ سنوات. فمن تعليقها على الطريقة «غير الحضارية» التي انتهجها لاجئون سوريون في تسلّم المساعدات، إلى حلقة من داخل بيت دعارة، إلى استضافة ملحدة وطردها على الهواء، إلى عشرات الحلقات عن الجان والعفاريت، وأخيراً «فتاة المول» وعرضها صوراً شخصية للفتاة من دون إذنها، ذاع صيت سعيد. عُرِفت بالدق المثير على أوتار مواطن الجهل في المجتمع، حيث السحر والشعوذة والجان والعلاج بالأحجبة وغيرها. ومع اندلاع ثورة يناير ووصول الإخوان للحكم وانقلاب الإرادة الشعبية عليهم، حرصت سعيد على مواكبة الأحداث عبر برنامجها، فاعتنقت السياسة فجأة وإن لم يغب الدجل والشعوذة والاغتصاب عن اهتماماتها. ليس هذا فقط، بل نصبت نفسها ملكة متوجة وعاملاً محفزاً للثورات. وساعدها في ذلك قاعدة مشاهدة شعبية عارمة ينكرها كارهوها، سواء من أولئك المنتقدين لضعف المهنية وغلبة الإثارة وغياب المواثيق الأخلاقية، أو ممن اشتعلت في قلوبهم نيران الغيرة من نسب المشاهدة المرتفعة التي تحققها أينما ذهبت. الأرقام تشير إلى أن برامجها كانت الأكثر مشاهدة أينما حلت، وأن مقاطع برامجها المثيرة – لا سيما تلك المتعلقة بالعفاريت والاغتصاب - كانت تسجل أرقاماً قياسية في المشاهدة على «يوتيوب». وأحاديث المواطنين البسطاء تصب في خانة شعبية سعيد، فمن الصعيد جنوباً إلى الإسكندرية شمالاً، ومن البحر الأحمر شرقاً إلى حدود مصر مع الوادي الجديد غرباً يتحدث البسطاء عن حلقة ريهام سعيد «عن علاج الجان» أو حلقتها لعلاج الأطفال الفقراء أو حلقتها التي كشفت المستور بغض النظر عن هوية المستور. لكنّ المستور الذي تهوى قطاعات عريضة من المشاهدين كشفه – ولو في السر- لا يقتصر على العفاريت والاغتصاب فقط، بل يحوي أحاديث المال و «البيزنيس»، وخبايا اللجان الإلكترونية، وكوارث الأداء الإعلامي، ومسائل مواثيق الأداء التي تعاني غيبوبة عميقة. بيانات وبيانات مضادة، وتصريحات جازمة وأخرى نافية، وموجات عاتية من إشهار سكاكين جزاري الفضائيات للذبيحة الجديدة. جزارو الفضائيات كثر. منهم من يحمل العداء لسعيد لأن برامجها الأكثر شعبية والأعلى مشاهدة رغم أنها «تروج الجهل» أو «تعتمد على الإثارة» أو «تخلط بين حبها للتمثيل حيث التراجيديا ودورها على الشاشة حيث الميلودراما»، ومنهم من يحمل لها الغيرة، لأنه يرى في نفسه الأولى بهذه الساعات ومن ثم تلك الجنيهات التي لا تحظى بها إلا لأنها أوفر حظاً في الفوز بالرعاة والشركات المعلنة. وهناك بالطبع من ينتقدها لأسباب مهنية بحتة، وعوامل تتعلق بالمساهمة في نشر الجهل والجهالة وتأصيل المفاسد من أجل خدمة رأس المال. من جهته، بزغ رأس المال في مسألة ريهام سعيد ليتصدر جانباً من المشهد. قناة «النهار» الخاصة سارعت إلى إصدار بيان جمع بين تبرئة ساحتها مما فعلته المذيعة، وفي الوقت نفسه تعليل الاستعانة بها من الأصل، مع درء شبهة الكسب المادي، حيث التأكيد على بناء شبكة قنوات «النهار» ب «الدم والجهد والعرق» بعيداً من المال. والرعاة والشركات المعلنة أعلنت انسحابها الواحدة تلو الأخرى. أما القنوات الخاصة الأخرى فسارعت إلى نفي أي أخبار تتردد عن انضمام المذيعة إلى هذه القناة أو تلك. وعلى رغم تصدّر عبارات مثل «حماية الأعراض» و «الدفاع عن الأخلاق» و «الحفاظ على المهنية» و «ضبط السلوك الإعلامي»، إلا أن الخبثاء يلوحون دائماً بورقة عائدات الإعلانات وفزاعة انسحاب الرعاة وانخفاض نسب المشاهدة ومن ثم تدني هوامش الربح. وهنا يبرز دور حملات الشبكة العنكبوتية الشعبية الضارية التي تمّ شنّها اعتراضاً على أداء سعيد، وتدشين «هاشتاغات» تحولت إلى «تريند» بعد ساعات، مطالبة بإقصاء سعيد ومقاطعة منتجات الشركات الراعية، وهو ما ساهم في تسريع قرارات الشركات بالانسحاب. لكنّ الشبكة العنكبوتية متراوحة التوجهات والانتماءات. ومثلما هبّ كثيرون لإقصاء سعيد، هبَّ آخرون لإبقائها. وعلى رغم شكوك بأن هبَّة الدفاع ربما تكون بفعل لجان إلكترونية منظمة، تبقى ذات حضور على الشبكة حيث ثمة مطالبة ببقائها وأخرى منددة بقناة «النهار». وسواء أبقت الفضائيات على إقصاء سعيد أو انتظرت حتى تسكن مياه الغضب قبل أن تعاود «سيدة العفاريت» و «ملكة تراجيديا» التقديم هجمتها التلفزيونية، تبقى الإشارة إلى أن ريهام ليست مجرد مذيعة، بل شعار مرحلة. الأدهى من ذلك أن كثراً ممن نصبوا لها محاكم فضائية على الهواء مباشرة، واستضافوا الخبراء والمحللين لتفنيد الاتهامات وعرض الملابسات هم أنفسهم متهمون بإفساد الإعلام مع سبق الإصرار والترصد. فمن مذيع «توك شو» حول برنامجه إلى «سب شو» إلى آخر نصّب نفسه حامي حمى الأخلاق وراعي قضايا الشرف عبر استضافة الراقصات المثيرات للجدل والمحامين المطالبين بطردهن أو حجبهن أو فرض الرقابة عليهن. بدا الجميع مستعداً لقيادة مسيرة المهنية ورفع راية الصدقية وتنقية الشاشات مما علق بها من غبار العفاريت وأدخنة الخوض في الأعراض، إلا أنهم لا يشيرون إلى أن العفاريت أنواع والأعراض باتت على المشاع. تعليقات المصريين المتراوحة بين «كلهم (المذيعون) ريهام سعيد» و «الدور المقبل على من؟!» ترسل رسائل نخبوية لأباطرة الشاشات ومستويات الأداء، لكنها في الوقت نفسه لا تخلو من نبرات حزن شعبوية لرحيلها ونغمات أسى لغياب عفاريتها.