سيظن المار من طرق الأحساء الزراعية أن قبائل من الهنود الحمر استوطنت هذه الأراضي، وذلك بسبب تصاعد الدخان من عدد ليس بالقليل من تلك المزارع، لتشكل سحابة ضبابية كبيرة، تشبه الحياة البدائية التي كانت تعتمد على النار، إلا أن تلك الأدخنة ما هي إلا بسبب حرق «طبينة النخل» بعد تنظيفه. وترتسم ملامح السعادة على وجوه الأحسائيين وخصوصاً المغتربين منهم أو من يعملون خارج واحة النخيل في مدن أخرى، حال مرورهم بجوار المزارع في آخر ساعات العصر، وسبب الابتسامة دخول رائحة «طبينة النخيل» إلى أنفاسهم، في عملية يقوم بها المزارعون تشبه إلى حد كبير تبخير المزارع ليس من العين والحسد، بل لتنظيفه وقتل الحشرات فيه. تبدأ الخطوة بأن يجمع المزارع بقايا سعف النخيل وقطع اللحاء أو ما يعرف محلياً ب«الكرب»، وأيضاً الشوك والحشائش، ليصنع تلالاً صغيرة متفرقة يشعل فيها النار، ويغطيها بتراب النخل الرطب، حماية من أن تنتقل النار إلى بقية المزرعة، لتنبعث الأدخنة التي تحمل رائحة النخيل وتراب الأرض، ويصدر منها عطر طبيعي أساسه المزرعة، وينافس أرقى أنواع البخور والعطور. يقول المزارع مهدي عبدالله العوض: «يتم حرق الطبينة في فترتين صباحية مع بداية شروق الشمس، أو نهاية العصر وأغلب المزارعين يفضلون العصر، هرباً من حرارة الشمس»، مضيفاً: «الأحسائيون مرتبطون ارتباطاً قوياً برائحة الطبينة، وهذا ليس عيباً لأنها تحمل رائحة النخل وتراب الأرض، وهل هناك ما هو أزكى من هذا الخليط؟». ويوضح: «لا نحرق المواد البلاستيكية أو الأخشاب، إلا أن الأيادي العاملة التي تسلمت زمام العمل في المزارع، أصبحت تحرق كل شيء ولا تغطي الطبينة بالتراب الرطب، ما يجعل الرائحة خانقة ومزعجة، إلا أننا نعتني بشكل كبير بهذه العملية التي تحتاج إلى خبرة وصبر». ويقول العوض: «للطبينة فوائد كثيرة بالنسبة للنخيل، فهي تقوم مقام المواد الكيماوية، إذ إنها تقتل الحشرات المضرة، وتمنح النخلة القوة والحياة، إلى جانب كونها محافظة على نظافة المكان والبيئة فلا وجود للأوساخ والمخلفات، وحرقها يتم بصورة نظامية وسليمة، ولا تزعج أحداً ولا تتسبب في مضايقة أحد أو أذيته». يقول عبدالعزيز السعيد: «أنا أعمل في مدينة الرياض، ولا أرجع للأحساء إلا في الإجازة الأسبوعية، وحين أمر بجوار المزارع أتعمد فتح النافذة لاستنشق رائحة الطبينة التي تذكرني بتراب أرض الأحساء وأصالتها، والزائر للمرة الأولى لهذه الواحة يمكن أن يصاب بدهشة بسبب منظر سحب الدخان، إلا أن خوفه من التلوث سيتلاشى بعد أن يشم رائحة الطين والنخيل». ويسرد حكاية حدثت معه في صغره ويقول: «كنت طفلاً مشاغباً وكنت برفقة والدي وأعمامي في المزرعة، واقتربت من الطبينة في غفلة من الجميع وأخذت سعفة طويلة محترقة وبدأت ألوح بها عالياً، وسرعان ما انتقلت النار إلى النخلة التي كانت بجواري لتنقلها بدورها إلى النخلة الثانية وهنا أحسست بالخطر فهربت واختبأت تحت كرم العنب ونمت». ويوضح: «لم تكن حادثة سهلة واستغرق والدي وأعمامي وجيراننا وقتاً طويلاً ومجهوداً كبيراً لإخماد الحريق، وبدأ البحث عني وبعد فترة طويلة وجدوني نائماً تحت العنب، ونلت عقاباً كبيراً على فعلتي، ولا أزال مرتبط بالطبينة على رغم وقوع هذه الحادثة العرضية». تتحول طرق الأحساء الزراعية إلى سحابة دخانية عطرة، ولا يلتفت الأحسائيون إلى تحذيرات الصحة بالأمراض التي يمكن أن تسببه هذه الأدخنة، بل ويجدون فيها أنها مهمة ومفيدة لإفرازات العين ولإزالة ألم الرأس وإنعاش الجيوب الأنفية، بحسب ما يتناقله مزارعون.