صدرت حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب/ سلسلة الجوائز، قصة «الدُب» للكاتب الأميركي وليم فوكنر، ترجمة عبدالحميد قاسم. تُكوِّن «الدُب»، إضافة إلى قصص أخرى كتبها فوكنر على مدى زمني طويل، مجموعة قصصية واحدة، ونظراً الى ترابط هذه القصص زمنياً وحكائياً، فقد شملها كتاب واحد تحت عنوان «إنزل يا موسى»، وهو عنوان آخر قصص الكتاب. «الدب»، «ما قد كان»، «انزل يا موسى»، «العجائز»، و «النار والموقد»... هذه بعض العناوين لقصص من المفترض أنها تدرّس لطلبة المدارس في أميركا، لا باعتبارها فقط من روائع الأدب الأميركي من جهة، والتأريخ لصراع البيض مع السود في الجنوب قبل قيام الحرب الأهلية من جهة أخرى، بل وإضافة إلى ذلك فإن فوكنر كان قد وضع خيطاً حكائياً واحداً لتاريخ عائلة «كاروثر ماك كاثلين»، وهي عائلة من البيض استوطنت الجنوب الأميركي في منتصف القرن التاسع عشر. من الممكن اعتبار هذه القصص رواية أجيال، وفق المفهوم النقدي لهذا النوع من الكتابات، لكن ما يجعلها متمايزة عن هذا اللون بدرجة، هو أن الكاتب عرض من خلال قصصه هذه شذرات متفرقة من تاريخ العائلة، فبدلاً من أن يرصد مسيرة الأسرة عبر التاريخ في خط درامي أفقي ينحدر من الأجداد إلى الأحفاد، أو حتى التقافز عبر الزمن ذهاباً وإياباً، تماماً كما فعل نجيب محفوظ في بعض رواياته، فقد قام فوكنر بعرض مواقف أحادية قصيرة الأجل من تاريخ الأجداد والأحفاد، مواقف عابرة في غالبية الأحيان، لكنها حية وصادمة ومعبّرة بشدة عن مأساة العبيد الذين أذلوا تحت حذاء راعي البقر الأبيض. من هنا، يمكن اعتبار ما قدمه فوكنر متتالية قصصية في المقام الأول، لكن ما لا يمكن التسامح فيه هو أن يتم التعامل مع قصة «الدب» باعتبارها رواية منفصلة (كما ورد في الترجمة هذه). على رغم طول قصة «الدب»، إلا أنه من الصعب التعامل معها على أنها رواية قائمة بذاتها، ومن الصعوبة البالغة أن يفهمها القارئ بمعزل عن القصص الأخرى، حتى لو انحرفت قلة من النقاد الغربيين الى تلبيس ما لا يمكن تلبيسه لهذه القطعة الأدبية، وفضلاً عن أن الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، قد اتخذ لنفسه اسم رواية عن غير تدقيق، فإن ما يعيب الطبعة التي بين أيدينا، إضافة الى احتوائها على قصة «الدب» وحدها دون القصص الأخرى، هو رداءة الترجمة، وسوء الإعداد وفشل الطباعة. على رغم أن المكتبة العربية تخلو من طبعة قريبة العهد لهذا الكتاب الثمين، إلا أن الطبعة الوحيدة التي تجشمت الهيئة المصرية العامة للكتاب عبء نشرها خرجت على هذا النحو، فما لم ينتبه إليه المترجم أن ترجمة الأدب تختلف كثيراً عن ترجمة المقال أو التقرير الصحافي. الجُمَل مشوّهة في غالبية الأحيان، والتراكيب اللغوية مغلوطة ونقلت من سياقها في شكل حرفي يخلو من الاجتهاد، وخيط السرد الذي رسمه فوكنر للحكاية تائه بين تكاسل الترجمة عن اكتشافه وسوء الإعداد للطبعة، ولا يستطيع المرء أن يجد رداً وافياً عن سؤال بسيط من قبيل لماذا يتم دمج فقرتين أو ثلاث في فقرة واحدة؟ أو لماذا يتم دمج الحوار بين الشخصيات في لحمة السرد، ولماذا يتم دمج الحوار بين شخصين في قالب واحد لا يمكن التفريق فيه بين ماهية المتحدثين. هذه الأمور لا تخص فوكنر بطبيعة الحال، ولا نستطيع أن نحدد ما إذا كانت الجهة الناشرة استغلت كون المؤلف الحائز نوبل يغطّ في الموت منذ ستينات القرن الماضي، ولن تواتيه الفرصة لقراءة نسخة كتابه في العربية، فلم تجد حرجاً في أن توفر في أوراق وحبر الطباعة بضعة غرامات، أم ماذا؟ تدور أحداث قصة «الدب» في الجنوب الأميركي، وبطلها أحد أحفاد «ماك كاسلين» الجد، واسمه «إيزاك»، حيث يرصد المؤلف سيرة حياته منذ كان طفلاً حتى الشيخوخة في شكل عابر، مكثفاً هذه السيرة في رحلتي صيد وحوار ثنائي طويل بين إيزاك وقريبه، بينما كان «كاروثر ماك كاثلين»، الجد الأكبر، من أوائل الرجال البيض الذين غزوا إحدى غابات الجنوب وأعملوا فيها أدواتهم الحديثة واستصلحوها للزراعة وتربية المواشي عوضاً عن الحياة البرية. كوَّن الجد في منتصف القرن التاسع عشر، مملكة خاصة به على حساب الهندي الأحمر الذي كان يعيش في هذه الغابات متصالحاً مع الأشجار والأدغال الكثيفة والحيوانات المتوحشة. على رغم تلك الصفات التي كانت تعد سامية في هذا العصر، وكانت كفيلة بأن تمنح الحفيد دماً نبيلاً، إلا أن إيزاك على خلاف جده نشأ محباً للبرية، كارهاً النظام الجديد الذي فطر عليه ماك كاثلين ورفاقه الطبيعة البكر لتصبح شيئاً آخر على غير ما عهدت نفسها عليه منذ آلاف السنين قبل أن يغزوها الرجل الأبيض. فالهندي الأحمر الذي عاش على أرض الجنوب، كان يتعامل معها على أنها ملكية مشتركة. كانت الحياة بدائية، لكنها كانت أكثر عدلاً، ولم تكن هذه البقاع على عِلم بأن بعض الرجال بأحذية طويلة وسراويل مشدودة وبنادق أوروبية الصنع، سيجلبون معهم نوعاً من النظام الإنساني قائماً على الغُبن والرِّق واستعباد الأجناس الأخرى باعتبارهم أنصاف بشر. يدور معظم أحداث القصة في البرية، حين يخرج الصبي «إيزاك» وهو في سن العاشرة بناء على طلب جده كي يتعلم الصيد في الغابة، المهمة الأساسية لهؤلاء الصيادين المنتمين في الأساس الى المجتمع الزراعي الحديث الذي أنشأه ماك كاثلين، وهي اصطياد الدببة. الدببة التي تهاجم مزارع الإقطاعيين من حين الى آخر. لم يكن «بن العجوز» مجرد دب بل شخصية أسطورية، حيكت حولها الحكايات كما تحاك حول إنسي متجبر. كان هو الدب الأكبر بين أفراد عائلة من الدببة، وكان لا يكف عن مهاجمة حقول الفلاحين ونهب دجاجاتهم وصيد مواشيهم، حتى أن الفلاحين أطلقوا عليه بن العجوز، في مقاربة موحية بين الدب وعالم الإنس. ويبدو أن «بن العجوز» لم يكن قد استوعب بعد أن هذه المزارع الجديدة - التي كانت في القديم جزءاً من الغابة المباركة - قد اقتُطِعت من أملاكه إلى الأبد، وأن القانون الجديد الذي فرضه ماك كاثلين ذو البشرة البيضاء يحظر عليه الاصطياد من البقاع التي أصبحت في حيازته. ويبدو أيضاً أن الكثير من محاولات صيد «بن» قد باءت بالفشل على مدار عشرات السنين، في حين سقط الكثير من أفراد أسرته، الشيء الذي أكسبه سُمعة أسطورية. وكان إيزاك على موعد حين يبلغ سن المراهقة كي يرى بأم عينه حادثة اصطياد الدب الشهير، التي لا بد ستلوكها الأجيال المقبلة في ليالي الشتاء حول المدافئ. كان الدب بالنسبة إلى فوكنر وجه الحياة البرية الذي قتل مراراً، وكان إيزاك من صميم حبه للبرية يكره صيادي الدب والكلب «ليون» الضخم الذي استخدموه في الإمساك به، وهو يحاور ابن عمه الذي ظلَّ وفياً للدم النبيل ومؤمناً بحق الرجل الأبيض في سيادة الأرض بعكس إيزاك. هذا الحوار الذي يكشف لنا ميل إيزاك، على عكس أقرانه، الى كراهية تلك المنظومة، الأمر الذي يتأكد له بمتابعته تاريخ العائلة، فهو على سبيل المثل يكتشف مصادفة أن «كاروثر ماك كاثلين» - الجد - قد انتقى له خليلة من عبيده لأيام معدودة، ومن ثم عندما شاخ في السن واحتاج خادمة تدبر له المنزل وتدفئ له السرير لبعض الليالي، اختار زنجية أخرى كانت هي نفسها ابنة الخليلة الأولى، ولم يكن مستبعداً أن تكون ابنته، ولم يكن هذا الأمر مستهجناً في مجتمع كهذا، وكان العبد المولود من ليالٍ مثل هذه يسمى «بوتشامب»، أعلى درجة من العبيد وأقل درجات من السادة. هذه الأمور كلها ستعد إيزاك في خلال سنوات كي يأخذ أغرب قرار في تاريخ أسرته، وهو أن يبيع الأراضي التي ورثها ثم يعود إلى البرية ليمارس الصيد الذي كان يمارسه الهندي الأحمر، في ألفة وتناسق مع جسد الطبيعة حتى يبلغ الشيخوخة ويموت. القصة لا تخلو من بصمة أسلوب فوكنر الساحر والمعقد في الوقت نفسه، وفيها من وصف طرق العيش في البرية الشيء الوفير، كما تمتاز بتحليل محكم لشخصيات عبيد الجنوب وكشف مستنير لجوانب دفينة في نفسياتهم، ومفارقات فاضحة مُحكمة البناء رهيفة وساخرة من العالم ناقمة عليه، تأتي عبر مواقف عابرة بين العبيد والسادة وأنصاف العبيد أنصاف السادة.