قد لا يكون بعيداً من الصواب ذاك الباحث الذي شبّه ذات يوم أدب الأميركي ويليام فوكنر، بالمتاهة أو حتى بالكلمات المتقاطعة. فهذا الأدب، على رغم تنوّعه وغناه وكثرة نتاجاته، بين رواية وقصص قصيرة ونصوص ذكريات وما شابه، وعلى رغم امتداد كتابته، في الزمن، على مدى عقود كثيرة توّجت في النهاية بفوز الكاتب بجائزة نوبل، هذا الأدب يبدو في نهاية الأمر عملاً واحداً مكتوباً بأشكال متعددة، وكأن فوكنر كتب نصاً أولاً، ثم راح يعيد كتابته مرات ومرات مستخدماً الأماكن نفسها، الوهمية أو الرمزية أو الواقعية، والشخصيات نفسها، معطيها أحياناً أسماء محدّدة، ومقدّمها أحياناً بأسماء أخرى، من دون ان يكون هدفه من ذلك كله، أكثر من الوصول الى كتابة كلمة «النهاية» نهائياً بصورة تقنعه بأنه حقاً قال كل ما كان، منذ الأصل، يريد قوله. ومع هذا يبقى السؤال: ما الذي كان فوكنر، أصلاً، يريد قوله، عبر ألوف الصفحات التي خطّها ووزعها على عدد هائل من الكتب؟ الجواب بسيط: كان يريد ان يقول أميركا نفسها، حتى وإن انطلق دائماً من موقع معيّن فيها: الجنوب. فأميركا كانت تفتنه، تقض مضاجعه وتبهره، يحبها كلّ يوم ويلعنها كلّ لحظة. وكان يشعر انه لن يهنأ عيشاً إلا اذا رسم اميركا هذه على الورق. ولكن أي اميركا؟ وهل هناك في حقيقة الأمر أميركا واحدة يمكن ان تُسبغ عليها كلّ الصفات وتواجَه بشتى المشاعر سلبية كانت أو إيجابية؟ هل هناك أميركا تستحق حقا كلّ هذا الاهتمام؟ في الحقيقة ان فوكنر لو كان يعرف جواباً لهذا السؤال البسيط لما كان كتب اصلاً، فالكتّاب الحقيقيون يكتبون عادة ومنذ أقدم الأزمنة لأن عندهم اسئلة لا تستطيع الحياة ان توفر لهم إجابات جاهزة عنها، وويليام فوكنر كاتب حقيقي بالطبع. ومع هذا يمكن ان نفترض ان أميركا التي كانت تشغل باله وشغلت أدبه وهموم مئات الشخصيات الروائية التي زرعها في كتبه، هي أميركا البشر وأميركا التناقضات في المقام الأول. ثم أميركا العلاقات العائلية والظلم الاجتماعي والجنس والعنصرية وتدمير الطبيعة، والسعادة كديكور والصعود الاجتماعي والجنون وخرق المحظور. أميركا بالنسبة الى فوكنر كانت تمثل هذا كله. وأميركا كانت كلها من أقصاها الى أدناها تمثل كلّ هذا، حتى وإن كان فوكنر وفي القسم الأكبر من أعماله قد اتخذ الجنوب، موطنه الأصلي، نقطة انطلاق ومصباً. ومن هنا يمكن القول ان ادب فوكنر، اكثر من ادب أي كاتب اميركي آخر، هو الذي يقدم لنا صورة اميركا... كما يراها أصحاب الوعي الحقيقي النخبويون من أبنائها... أي صورة المتاهة. وهذه الصورة، إذا كانت تبرز في ادب فوكنر كله، فإنها تبرز بخاصة وفي شكل اكثر صفاء في ثلاثية له من الصعب القول الآن انها الأشهر بين أعماله، وهي ثلاثية «آل سنوبس» المؤلفة من ثلاث روايات هي: «القرية»، «المدينة» و «الملكية»، علماً أن الجزء الثاني («المدينة») يبقى الأشهر والأكثر دلالة واكتمالاً، بحيث إن الجزء الأول يبدو مجرد تمهيد، والثالث مجرد طريقة للوصول الى خاتمة ما. ولعل ما يلفت هنا، اكثر من أي أمر آخر، هو ان فوكنر لم يكتب اجزاء الثلاثية تباعاً، بل على فترات متفرقة من حياته ومن مساره المهني، بحيث إن سنوات عدة تفرّق بين كل عمل وآخر. ومن هنا تعتبر كتابة الثلاثية هذه، نوعاً من استراحة المحارب، بمعنى ان فوكنر كان يعود الى هذا العمل، خلال حقب تفصل بين اعمال أخرى له. لكن اللافت هو انه كان دائماً يستخدم في مختلف أجزاء الثلاثية، شخصيات ظهرت في أعمال اخرى له، سواء على سمة شخصيات رئيسة أو أخرى ثانوية، ما يساهم اكثر وأكثر في رسم صورة هذه المتاهة التي نتحدث عنها. في «المدينة» الجزء الثاني من ثلاثية «آل سنوبس» وهي العمل الذي يهمنا هنا، يتابع ويليام فوكنر حكاية الصعود الاجتماعي لواحد من أشخاص «القرية»، وهو فلن، من جماعة «فرنشمان بند» الذي كنا في الرواية الأولى قد بدأنا نتابع صعوده الاجتماعي والاقتصادي الذي تحقق بفضل مؤامراته ومناوراته ودسائسه التي يعتبرها فوكنر ممارسات عادية «على الطريقة الأميركية». بالنسبة الى فوكنر، هكذا نشأت اميركا وكبرت ونمت ونجحت حقاً. وها نحن هنا بعدما كنا تعرّفنا الى فلن في «القرية» نتابع هنا مسيرته التي توصله في «المدينة» الى ان يصبح رئيساً لمصرف رئيسي في جيفرسون (مدينة فوكنر الوهمية المعنية بالعنوان)، ومن ثم الى ان يصبح عمدة المدينة وصاحب السلطة الرئيسة فيها. ليس في هذا العمل، على اية حال، اية خبطات درامية كبيرة، هي مجرد سرد لحكاية ذلك الصعود، تقدَّم لنا بثلاث طرق مختلفة، وعلى لسان ثلاث شخصيات، ليست أي منها غريبة اصلاً على قراء فوكنر، اذ سبق اللقاء بها في روايات ونصوص أخرى. بل لا بد من ان نذكر هنا ان فوكنر دمج في هذه الرواية، التي صدرت للمرة الأولى في نيويورك عام 1957، قصتين قصيرتين كان كتبهما تباعاً بين 1932 و 1943، من دون ان يوضح دوافع ذلك الدمج، ما زاد طبعاً من الإحساس بوجود متاهة تدور داخل، ومن حول عمل فوكنر ككل. مهما يكن، نعود هنا الى الشخصيات الثلاث التي تروي لنا «أحداث» المدينة، على شكل مدوّنات تاريخية تنطلق كل شخصية في روايتها من وجهة نظرها الخاصة... بدءاً، أولاً، براتليف، بائع ماكينات الخياطة الظريف الذي كنا تعرّفنا إليه، تحت اسم سورات، في عملين آخرين لفوكنر: «سارتوريس» و «فيما كنت أحتضر». وراتليف هذا، إذ يروي «الأحداث»، تكاد تكون مهمته ان يصحح أخطاء أو مبالغات الراوي الثاني غافن، الثرثار القاسي، الذي يفضل ان يعطي لكل مسلك وعبارة معاني متوارية، هو العازب الأبدي الذي لا يعرف كيف يتعامل مع الواقع إلا من منطلق الثرثرة القاسية. أما الراوي الثالث فهو تشارلز ماليمون، ابن اخت غافن، والذي نعرف انه هو بطل رواية «الدخيل» لفوكنر، مع انه هنا، في «المدينة» يكتفي بدور الراوي... لكنه الراوي الذي يقف موقفاً وسطاً بين راتليف المتسامح الطيب وغافن العدواني، وتكون له في نهاية الأمر الكلمة الأخيرة. طالما ان فوكنر يستخدمه، كما في الأعمال السابقة التي ظهر فيها، كبارقة امل ايجابية قد يمكن استخدامها تعويذة ضد بؤس الحياة وبؤس علاقاتها. واضح ان تشارلز ماليسون هو هنا لطمأنة الكاتب وطمأنة القارئ الى ان الأمور ليست على البؤس والسواد اللذين قد يبدوان في سياق الرواية ككل، وأن حكاية صعود فلن الصاخبة والمملوءة بألوان الظلام، ليست نهاية التاريخ ونهاية الإنسانية. من خلال ماليسون، اذاً، يحدّثنا ويليام فوكنر عن ذلك «الجنوب الجديد الذي يمكن، على رغم كل المآسي وكل الأخطاء وكل ضروب الظلم والعدوانية، ان يقوم ذات يوم من بين الرماد، شرط ان يتعامل بعقلانية وهدوء مع ما يحل به». ذلكم هو الدرس الأساس الذي يطلع به فوكنر من هذا العمل الذي نشره قبل خمس سنوات من رحيله، وأحب ان يضع فيه بارقة أمل ولو مشروطة. مهما يكن، يمكن القول ان بارقة الأمل ظلت دائماً موجودة، في ثنايا او في خواتم، معظم اعمال ويليام فوكنر (1897 - 1962)، حتى وإن كان الموت والشر عنصرين اساسيين في رواياته، وحتى وإن كان الجنون يكاد يبدو القاعدة، والعقل استثناءً. وفوكنر الذي اعتبر دائماً من اكثر كتّاب اميركا أوروبيةً وربما أيضاً تجديديةً في زمنه، خلّف حين رحل بعد نيله «نوبل»، عشرات الروايات (اشهرها «الصخب والعنف» و «فيما كنت احتضر» و «النخل الضاري» و «ضوء في آب») كما خلف سيناريوات سينمائية وكتب مذكرات عدة. [email protected]