إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    الملك يضيف لؤلؤة في عقد العاصمة    إطلاق أول «بودكاست» في المسؤولية المجتمعية    اجتماع قادة الصناعة المالية الإسلامية في اللقاء الاستراتيجي الثاني لمناقشة الابتكار المستدام    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    الفيحاء يواجه العروبة.. والأخدود يستقبل الخلود.. والرياض يحل ضيفاً على الفتح    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    نيمار يقترب ومالكوم يعود    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    نور الرياض يضيء سماء العاصمة    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    بهدفين في الدوحة| الاتفاق ينفرد بالصدارة عبر بوابة العربي القطري    قمة آسيا للذئاب    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    باحثة روسية تحذر الغرب.. «بوتين سيطبق تهديداته»    سعود بن بندر يستعرض إستراتيجية «تطوير الأحساء»    الزميل رابع يحتفل بزفاف إبنه د. صالح    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    إشادة أوروبية بالتطور الكبير للمملكة ورؤيتها 2030    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    60 صورة من 20 دولة للفوتوغرافي السعودي محتسب في دبي    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    التويجري: السعودية تُنفّذ إصلاحات نوعية عززت مبادئها الراسخة في إقامة العدل والمساواة    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    «مساعد وزير الاستثمار» : إصلاحات غير مسبوقة لجذب الاستثمارات العالمية    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    مشروعات طبية وتعليمية في اليمن والصومال.. تقدير كبير لجهود مركز الملك سلمان وأهدافه النبيلة    أمير الرياض يرفع الشكر والتقدير للقيادة على إطلاق «مشروع قطار الرياض»    ميقاتي يحذر النازحين من العودة السريعة.. وإسرائيل تعلن اعتقال 4 من حزب الله    وزير الرياضة : 80 فعالية عالمية زارها أكثر من 2.5 مليون سائح    البنيان: رصدنا أكثر من 166 مشروعا تعليميا في 2025    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    الشتاء يحل أرصادياً بعد 3 أيام    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    هؤلاء هم المرجفون    اكتشاف علاج جديد للسمنة    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النخب السياسية المصرية بين ثقة مفقودة ووعي غائب
نشر في الحياة يوم 20 - 03 - 2014

لا أحد ينكر أن ثورات الربيع العربي حدثت في زمن مختلف، أقصد على نحو مباشر زمن العولمة، الذي يدفع المجتمعات دفعاً إلى ضروب من الصراع الثقافي الذي يتبلور حول قضايا الدين والعرق والنوع. وأغلب الظن أن ما يحدث في العالم من تكاثر لأدوات الاتصال، ونشر المعلومات، وفرض صيغ موحدة في الاستهلاك والإنتاج يعمل على توحيد العالم، أو قل خلق صيغ متشابهة عند القمة، ولكنه يفرقه ويمزقه عند القاع؛ حيث يترك البشر يتنازعون على الهوية والتراث والحداثة والمدنية والديموقراطية، وحول الحاضر والماضي، والشرق والغرب، والصواب والخطأ، وغير ذلك من قضايا الحياة والثقافة. وتتزايد حدة هذه النزاعات في أطراف العالم، فهي تتكاثر وتنمو كلما فشلت الدول في هذه المناطق الهشة من النظام العالمي في إدارة شؤون البلاد على نحو يحقق للبشر عيشاً كريماً.
لقد قامت الثورات العربية في هذا الزمن التفكيكي، ولذلك فإنها أضافت بعداً تفكيكياً جديداً لتفكيك قائم وفاعل في جسد المجتمع. ولست هنا في موقف مضاد للثورة، ولكنني أحاول أن أرصد واقعاً مُعاشاً. فالثورة في المجتمع الراكد تشبه كومة من الأحجار تُلقي بدفعة واحدة في مياه راكدة، فتقلبها وتخلق فيها تدافعات غير متوقعة. ويكون هذا التدافع أقوى في حال حدوثه في زمن يزخر بصور من التدافع والصراع؛ وهكذا يكون المجتمع في حالة التحول الثوري. هنا في هذا المشهد تُضاف عناصر التفكيك؛ والتي تخلقها الثورة إلى عناصر قائمة بالفعل، فتجعل الثورة أداة تفكيك وليست أداة تمكين.
وفي هذه الحالة يفرض على الوعي الثوري استحقاق مهم، يتمثل في إدراك السياق الذي تحدث فيه هذه التحولات التفكيكية، فهي إما أن تُترك لمسارها الطبيعي فتعمل على التشظي والشرذمة؛ ومن ثم تفكك وموت وفناء، وإما أن تدرك خطورة الموقف الذي يظهر فيها هذا الزخم الثوري والاحتجاجي، فيتطور في مقابله وعي يبحث عن ناظم مشترك للحياة، فيعيد إليها روحها وسمتها فتبقى حية متدفقة. الثورة في هذا الظرف لا تضع المجتمعات أمام خيار النهضة بقدر ما تضعها أمام خيار الاستقرار، لأن غياب الاستقرار يعني الضياع.
والمتأمل لهذا الوضع يكتشف أن هذا الوعي يتخلق في المجتمع أكثر مما يتخلق عند النخب السياسية. وأحسب أن خروج الشعب المصري في ثورته التصحيحية في الثلاثين من حزيران (يونيو) في العام الماضي، كان يعني - ضمن ما يعنيه - تجسيد هذا الوعي، أقصد الوعي المضاد لتفكيك المجتمع، وإشاعة روح الاستقطاب والاستبعاد فيه عبر نظام الحكم الاستحواذي الذي أفرزته الثورة. أما مواقف النخب السياسية فإنها تؤشر كلها على تفكيك وتشظٍ، يصاحبهما قدر كبير من فقدان الثقة وفقدان القدرة على التوصل إلى حد أدنى من الإجماع. حقيقة أن الرأي الظاهر لدى عدد كبير من هذه النخب هو مساندة التيار الرئيسي، الذي تجسد في خريطة المستقبل التي رسمها الشعب بعد خروجه الثاني، ولكن هذه المساندة تأتي في شكل فردي (أي من كل نخبة أو فصيل على حدة)، وليس في شكل تفاعل ونقاش وتدبر عقلي (في المجال العام) ينتج منه فكر عملي يؤدي إلى إجماع عام. ويدل ذلك على استمرار التشظي والتفكيك في بناء النخب، رغم وجود هذا الميل الفردي نحو تأييد التيار الرئيسي. وقد يكون مفيداً لكي ندرك حجم هذا التشظي وعمقه أن نتعرف عن قرب على مشهد النخب الفاعلة على الحلبة السياسية.
تقف هناك النخبة المركزية التي تدير المرحلة الانتقالية، والتي تحاول جاهدة أن تمسك بزمام الأمور، وأن تعبِّد الطريق وتفسحه نحو استمرار التيار الرئيسي الذي تشكلت نواته بمساندة شعبية واسعة. وبرغم أن هذه النخبة - التي تتكون من تفاعل عسكري ومدني - تحتل المكانة المركزية، أي أنها تقف في مكان النخبة المركزية التي تحللت وتفككت بناء على الثورة، إلا أنها تختلف في موقفها وتوجهاتها عن هذه النخبة المركزية القديمة. وتقف هناك أيضاً نخب مدنية؛ تتفرق على توجهات أيديولوجية: اشتراكية وليبرالية وقومية، وتعتمد على إرثها في معارضة النظم السياسية السابقة على الثورة. وهي بذلك تعتبر نخباً وريثة لنخب ما بعد الاستعمار، وهي تحمل توجهات هذه النخبة نفسها من حيث التوحد بينها وبين الوطن، والاتكاء على عصا التاريخ الشخصي والنضال الاحتجاجي في تكوين صورة لتميزها عن النخب الأخرى، وأهمية دورها ومشاركتها. وعلى الجانب الآخر تقف النخب ذات التوجه الديني، التي تدخل إلى عالم السياسة من خلال الدين. ومثلها مثل النخب المدنية تتفرق على صبغات مختلفة تتدرج عبر مستويات من التشدد والغلو والأدائية في استخدام المعطيات الدينية في السياسة. وتعتمد هذه النخب على رصيدها التاريخي، والذي يرتكز على صراع مستمر مع الدولة، وتقدم نفسها من ناحية أخرى على أنها ضحية النظم الاستبدادية أو تقدم نفسها باعتبارها تحمل مشروعاً لإنقاذ المجتمعات الضالة (ومن بين هذه النخب من حكم فضلّ الطريق وتحولت ممارساته السياسية إلى عنف وعداء ظاهريين). ولقد أفرزت التحولات الثورية الصعبة المخاض نخباً شبابية بازغة تقف في مقابل كل هذه النخب، وليس لهذه النخب الشبابية الجديدة من رصيد؛ ولذلك فإنها تعتمد على قدرات مستحدثة في عالم النخب، نميل إلى أن نطلق عليها القدرات الجدالية (القدرة على استخدام أدوات الكلام) والقدرة الاحتجاجية (اتخاذ الاحتجاج أسلوب حياة). وتتفاعل هذه النخب جميعاً مع دوائر أوسع من النخب كالنخب الإعلامية والنخب الثقافية ونخب المجتمع المدني والنخب المحلية.
ويشكل هذا التنوع في حد ذاته ظاهرة إيجابية، إذا ما توافر مجال عام (فضاء عام أو عمومي كما يقول أهلنا في شمال إفريقيا)، غير مشوه يمكِّن هذه النخب من طرح تفكير عملي وتدبر المصلحة العامة للمجتمع. وفي غياب هذا الفضاء العام، فإن الثقة تنعدم، ويصبح التحصن حول الحدود الضيقة بديلاً للانفتاح على العالم وتجسير العلاقات على نحو تعددي وتضامني. وفي مثل هذا الظرف يتعذر على النخبة المركزية خلق ناظم للحياة يجمع الطرق صوب هدف واحد. وفي هذا الظرف أيضاً إما أن تتجه النخب صوب المركز في شكل قوي وسريع، وإما أن تشيح بوجهها بعيداً من المركز في ازورار وقنوط. ويعمل ذلك بدوره على استمرار زخم التفكك.
يبدو المشهد هنا وكأن البشر يلتفون خلف بعضهم بعضاً، فتجف منابع الثقة باستمرار ويضمحل رأس المال الاجتماعي. ويشي السياق كله بغياب الوعي بالأخطار المحدقة؛ وأهمها خطر التفكيك والفوضى. والغريب في الأمر أن الحديث عن الأخطار، ومن بينها خطر التفكيك، يظهر جلياً في الخطاب، ولكن السلوك لا يدل على أن هذا الوعي يتحول من صورته المثالية إلى ممارسة عملية؛ حيث تظل الكلمات مفارقة للفعل، ويظل الخارج مفارقاً للداخل. إن الوعي بالخطر يتطلب الوحدة في مواجهته، كما يتطلب عدم الخوض في مخاضات تفكيكية جديدة، والعمل بجد على الالتفاف حول النخبة المركزية التي تقود الطريق نحو المستقبل المستقر. وفي مقابل هذا كله يبقى الشعب دائماً أكثر وعياً وأشد حماسة ويقظة، لذا فالشعب هو الضمان الأبقى والأكثر تأثيراً في هذه المسيرة.
* كاتب مصري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.