تمتلئ شوارع طهران الرئيسة بإعلانات الأفلام. على لوحات متتالية صور لأفلام تبدو وكأنها فيلم واحد، هزلي في الغالب. المكتوب بيّن من عنوانه، هذه سينما لن تذهب بعيداً، لن تحتفل بها المهرجانات الخارجية، ستكتفي بجمهورها المحلي. ثمة فضول يفرض نفسه، تعرفنا ومنذ زمن على السينما الإيرانية «الفنية» وتلك التي تحاول أن تكون «فنية»، لكن ما هذه السينما التي تكتسح دور العرض، ما مضمونها ومن جمهورها؟ طلبنا من صديق ناقد أن يرشدنا إلى أحد المختصين بالسينما «التجارية» في إيران. فوراً جاء الاسم فريدون جيراني أحد أهم النقاد منذ ما قبل الثورة، إضافة إلى كونه كاتب سيناريو ومخرجاً لأفلام ناجحة جماهيرياً. بعد سنوات طويلة من العمل في الصحافة الفنية اتجه جيراني عام 1998 نحو الإخراج. البداية كانت مع فيلم «قرمز»، رصيده الآن مسلسل تلفزيوني «موت حلم»، وسبعة أفلام: «الماء والنار» و «العشاء الأخير» و «زهري» و «سلطة الفصل» و «النجوم» و «بارك واي» الذي حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً وساهم في ظهور موجة أفلام الرعب في السينما الإيرانية هذه الأيام. من وجهة نظرك الشخصية كناقد وكمخرج هل تندرج أفلامك كلها ضمن تعريف «السينما التجارية»؟ - بيعت كل أفلامي جيداً. لكنها أيضاً ربحت جوائز في المهرجانات. عرض لي فيلمان في الخارج هما «العشاء الأخير» الذي نال جائزة التمثيل النسائية في القاهرة. و «قرمز» بطولة الممثلة هدية طهراني. كما لقي هذان الشريطان حين عرضا في بدايات الألفين في إيران إقبالاً ضخماً. سينما لطبقة متوسطة إلى ماذا تعزو نجاحهما الكبير في إيران؟ - يخاطب العملان الطبقة الوسطى. والفترة التي أنتجا خلالها كانت تشهد تحولاً في المجتمع الإيراني، الفترة الذي بدأت فيها عودة الطبقة الوسطى إلى السينما والتصالح معها. في الحقيقة، أحبذ إطلاق تعريف آخر على هذه النوعية من الأفلام، وأجد في «الأفلام المتوسطة» التعبير المناسب. إنها سينما تهتم بالجمهور العام وتحترم ذكاء الجمهور الخاص الأكثر نخبوية. في تلك السنوات، أي بدايات الألفين، ظهرت أفلام تدخل ضمن تعريفي للسينما «المتوسطة»، مثل «قرمز»، «امرأتان» لتهمينة ميلاني، «شكران» لبهروز أفخمي... وهي أفلام تمكنت من إيجاد مكان للسينما لدى الطبقة الوسطى الإيرانية، ونجحت في أن تكون جذابة وفي أن ترفع من اعتبار السينما الشعبية لتجد لها مكانة أفضل. يمكنني أن أضيف عناوين أخرى مثل «ضيف أمي» لداريوش مهرجوي و «بيت على الماء» لبهمن فرمنارا و «أنت الكلب» لبهرام بيضائي. تذكر بيضائي ومهرجوي لكن أفلامهما تصنف عادة في خانة أخرى. - الفيلمان اللذان ذكرت، استطاعا جذب جمهور غير نخبوي وتمكنا من نسج علاقة مع الجمهور العريض. ما هي خصائص تلك السينما الشعبية أو «المتوسطة» التي تتحدث عنها، فنيتها، مواضيعها، جمهورها، ممثلوها، موازنتها؟ - يجب القول أولاً إن هذه السينما هي انعكاس للوضع الاجتماعي للبلد وهي تختلف نتيجة لذلك من عقد لآخر. السينما الشعبية في الثمانينات، مغايرة لتلك في التسعينات أو في بداية الألفين. إن الأفلام التي ذكرتها، والتي حظيت بجمهور كبير، هي نتاج السنوات الأخيرة من التسعينات وبدايات الألفين. أما السينما الشعبية اليوم فقد اتخذت أشكالاً مختلفة تماماً عن كل العقود السابقة وثمة عوامل عدة تضافرت وتركت أثرها عليها. بدءاً من 2004 وحتى الآن، تأثرت تلك السينما بتراجع الحالة الاقتصادية للطبقة الوسطى وبالتالي تضاؤل الوقت المكرس للترفيه. هذا الجمهور راح يومها شيئاً فشيئاً يدير ظهره للسينما الإيرانية. ترافق ذلك مع ازدياد استيراد الأفلام المنافسة للفيلم الإيراني والمترجمة إلى الفارسية. كما أن التحول في الوضع السياسي وتزايد الرقابة على السينما، لعبا دوراً في التوقف عن إنتاج تلك النوعية من الأفلام والتي يمكن القول أنها كانت تحيا مرتين. هي من جهة جذبت الجمهور العريض ولكن أيضاً الجمهور الأكثر ثقافة. وأخيراً جاء ازدياد المحطات التلفزيونية الفضائية التي تبث الأفلام المترجمة للفارسية، المنافسة لهذه السينما «المتوسطة»، وبث القنوات الإيرانية للمسلسلات على نحو واسع ليبعد الناس ويصرفهم عن الذهاب إلى دور العرض. وليس من الممكن إغفال الدور الذي لعبه ظهور أفلام إيرانية على أقراص مدمجة، والتصريح للأفلام المدبلجة، وارتفاع سعر الدخول إلى السينما يوازي دولارين، من أثر حاسم على انخفاض نسبة تردد جمهور الطبقة الوسطى على السينما. تجدر الإشارة أيضاً إلى بروز ظواهر جديدة منذ عام 2005 حين اتجهت السينما الشعبية إلى إظهار كل ما يناقض الدعاية الرسمية، وإلى إعادة إنتاج أفلام عالمية ناجحة، وهذا النمط من الإنتاج اعتمد على الاقتصاد في الموازنة. وهكذا، ألغي تقريباً دور المخرج وكاتب السيناريو وأعطي الدور للنجم. لقد شكلت هذه التغيرات الوجه الجديد للسينما الشعبية في إيران. زمن النجوم ظاهرة النجوم جديدة نسبياً في السينما الإيرانية، كيف بدأت بالتشكل؟ - بدأ تحول الممثل إلى نجم عام 1990، كان ذلك في فيلم «العروس» مع نيكي كريمي وأبو الفضل بور عرب اللذين باتا نجمي ذلك العقد. وفي نهايته، ظهرت هدية طهراني في «قرمز» ومعه تحولت إلى نجمة، كذلك الأمر مع محمد رضا فروتن في فيلم «امرأتان» لتهمينة ميلاني. إنهم نجوم تلك الفترة التي كانت تخاطب الطبقة الوسطى. إنما اعتباراً من منتصف الألفين وبداية تحول السينما الشعبية إلى سينما منسوخة وسينما شبه هزلية تعتمد على خليط من الحركات والعبارات، غدا ممثلو هذا النوع نجوماً ومنهم مهناز أفشر والناز شاكر دوست وأمين حيايي وجواد رضويان ومهران مديري ومحمد رضا كلزار. ما نوعية الأفلام التي تقبل السينما الشعبية الإيرانية على نسخها وإعادة إنتاجها؟ - يعرض الآن في طهران «الأختان» وهو نسخة طبق الأصل عن الفيلم الأميركي «Too much» كما يعرض «السيد بسبعة ألوان» وهو نسخة عن فيلم إيراني قديم من السبعينات. ثمة أفلام أخرى من قبل الثورة يعاد إنتاجها الآن. تخاطب السينما الشعبية راهناً الجمهور المتعب المثقل بالمشاكل لجعله ينسى الحياة الواقعية وهمومها ولا يفكر بشيء. وهي سينما تعتمد الموازنة الضئيلة كما سبق واشرنا لها ويكفي شهر لإنتاجها. ثمة خاصية أخرى مهمة للسينما الشعبية الحالية وهي التوجه نحو ما تغفله الدعاية الرسمية للحكومة. سعت تلك الأعمال، ومنذ تحديد نوعية وكمية الحفلات الموسيقية في إيران، إلى جعل الموسيقى والأغاني الجديدة جزءاً مهماً منها. وفي حين تتجه الدعاية الرسمية نحو الطبقات المحرومة والفقيرة من المجتمع، تسعى تلك الأفلام إلى إبراز ما يحصل في الطبقات المرفهة في شمال طهران حيث كل شيء فيها «شيك»، النساء والسيارات والبيوت... إنها تبرز الحياة العصرية للمجتمع الإيراني، بخلاف ما كان يجري في السينما الشعبية قبل الثورة وبخلاف السينما النخبوية الحالية التي تهدف إلى إظهار حياة الطبقة الفقيرة. هذا يقودنا إلى السؤال عن التحولات التي طرأت على السينما الشعبية، ما الذي تغير في خصائصها، والأهم في مواضيعها، قبل الثورة وبعدها؟ - السينما الشعبية قبل الثورة كانت انعكاساً للظرف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وكانت تختلف من عقد إلى آخر. لقد هدفت تلك السينما في الستينات إلى إظهار الحياة التقليدية وغير العصرية للمجتمع الإيراني، وذلك في اتجاه معاكس لما كانت تريده الحكومة آنذاك. وكما كان التلفزيون يري الأحياء المرفهة وتطور البلاد، كانت السينما تري جنوب البلاد: البازار، والحياة التقليدية العائلية والمرأة المحجبة... ويعتبر شريط مسعود كيميائي «قيصر» أشهر أفلام تلك المرحلة. أما المرأة «الشيك» والسيارة والبيت والمطاعم «الشيك»، فلم نكن نراها على الإطلاق في السينما! لقد مثلت الأحياء المرفهة في الأفلام الشعبية قبل الثورة المكان حيث يقطن «الأشرار»! إذاً ثمة بحث مستمر، سينمائي، عما يغاير موقف الحكومة سواء قبل الثورة أو بعدها؟ - تماماً. وهذا ما يعكس السينما الإيرانية. يمكننا علمياً تعريف سينما ما قبل الثورة بأنها عنت بالحوار الفكري الذي كان يدور في المجتمع حينذاك والذي كان قائماً على مفهوم العدالة الاجتماعية. كانت السينما الشعبية تحت تأثير ذاك الخطاب، وهي قد حولت الطبقة المحرومة إلى «بطل» في أفلامها. أما بعد الثورة فإن خطاب المجتمع المثقف بات يقوم على الصراع أو المواجهة بين الأصالة والمعاصرة. ومالت السينما الشعبية إلى اختيار الحياة المعاصرة. وفي شكل عام، ثمة نوعان من الأفلام الآن، أفلام بموازنة زهيدة وأخرى لمخاطبة الأجنبي، وبينهما سينما قليلة وقليلة جداً تحاول الحصول على هذا الجمهور المتوسط، وأذكر منها «كل بساطة» لمير كريمي (نال جائزة مهرجان فجر 2007) و «شدو العصافير» لمجيد مجيدي. هذه نظرة متشائمة إلى واقع السينما الإيرانية؟ - إنها نظرة واقعية. ويعود السبب في وصول السينما الإيرانية إلى ما هي عليه الآن إلى الظرف الاجتماعي الحالي. السينما النخبوية للخارج والسينما الرخيصة هنا، إن شكل الإنتاج السينمائي غير طبيعي. وفي اعتقادي أنه إذا حاول القطاع الخاص أن يدفع بقوة وأن يجد مكانه الطبيعي في اقتصاد المجتمع فسيغير ذلك من شكل الإنتاج. وأنا أقوم حالياً بتحقيق أفلام لهذه الطبقة المتوسطة، وعلى ما يبدو ثمة نية لدى الحكومة لعودة هذا النوع من الإنتاج.