تُطرح مسألة المنهج في الخطاب الديني الإسلامي بشكل مستمر ومكثف أحياناً، ولكنها لا تخرج في الغالب عن تصورات خاصة تنطلق من رؤية عقدية تعبّر عن منهج النجاة للطائفة المنصورة من خلال البحث في منهج السلف حول قضايا الاعتقاد في الغالب، وهناك تصور آخر يطفح الحديث حوله ومُتعلَقه منهج الجماعة الإسلامية وما يخصها من أدبيات وطرائق في العمل والدعوة، بالإضافة إلى استعمالات أخرى للمنهج تدور ضمن معاني التميز والتفرد أو مسائل الاختلاف والاتفاق عند إمام أو عالم أو تلك التي تحصل لبعض المنتمين إلى مؤسسات أياً كانت أو مراكز وجهات تريد أن تختط لها طريقاً في العمل يميزها عن الآخرين من خلال استعمال مصطلح المنهج في التوصيف والمقارنة بينها وبين الواقع الموجود. فالمعايير الضابطة ووضوح المنهجية، أضحت من المسائل ذات الأولوية للفرد والمجتمع، فبها يصل السائر لمبتغاه من دون انحراف، ويحقق هدفه من دون تعثر، وكون المناهج أُختزلت في قضايا الاعتقاد أو طريقة جماعة أو مؤسسة لا يعني غلط هذا التوجه بقدر خلل قصوره عن الشمول لمناحي الحياة وأبواب العلم الأخرى، مع أهمية ممارسته في الذهن في كل القضايا التي ترد عليه، وفق المعايير العلمية للمنهج الصحيح، وأكثر منعطفات التاريخ الإنساني إيجابيةً وتأثيراً على الإنسان هي الأعمال التي عُنيت بالمنهج وأسست معاييره في العقل والواقع. ولا يزال العالم اليوم ينظر بشيء من الوفاء إلى بعض المجددين ودورهم في التقدم والتغيير لعنايتهم بمسألة المنهج، ولعل من أشهرهم أرسطو في مقالاته حول المنطق، وفرانسيس بيكون في «الارغانون الجديد»، وديكارت في «رسالة في المنهج» وغيرهم، عدا عن دور الأنبياء والرسل السابقين في بيان معالم المنهج الحق للإنسان. وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع، حريٌ أن أضع بين يدي القارئ مقدمتين كمدخل للحديث عن مسألة المنهج وإشكالياته في الخطاب الديني المعاصر على وجه التحديد. أولها، معرفة المقصود بالمنهج واستعماله المراد في هذا المقام، وذلك من خلال نصوص الوحي ولغة العرب، فالمنهج والمنهاج غالب استعمالاته في اللغة تدور حول الطريق الواضح (انظر: لسان العرب طبعة صادر 2/383)، وهو الاستعمال القرآني ذاته كما في قوله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا» (سورة المائدة 48) وفي الحديث: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون.. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» (رواه أحمد 4/273 ، رقم 18430) فالمعنى المتبادر هنا في المقصود بمنهاج النبوة؛ يظهر كمجموعة من المعاني والأدوات، أي مفاهيم وطرق واضحة المعالم، وهذا ما يجعل معنى المنهج في اللغة والاستعمال الشرعي واضحاً ومدركاً، وليس شديد الالتباس بحيث يخفى على الأغلب من الباحثين عنه، وإلا كان تكليفاً بمُحال، وهذا لا يقع في خطاب الشريعة. أما تعريفه الاصطلاحي فيدور حول معاني عدة فيها قدر مشترك من التشابه على رغم اختلاف التوظيف التنزيلي لمعناه بحسب العلوم والتخصصات، بيد أن الغاية من إيراده هنا؛ هي ذاك المقصود المشترك الذي يعني: اتجاه علمي يستخدم بعض المفاهيم والقواعد للوصول لحقيقة ما. أما المقدمة الأخرى، فلقصد بيان حقيقة المنهج الذي جاءت به الشريعة الإسلامية، والتي وُصفت بالكمال والتمام، كما في قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» (سورة المائدة3). فحصول الكمال والتمام والخلود لا يقع في نصوص محدودة العدد؛ بينما الوقائع غير متناهية وإشكالات الحياة متنوعة وتقذف بالكثير من الأسئلة التي تحتاج إلى معرفة حكم الشريعة فيها، لهذا لا بد من تقدير منهجية تشريعية تجعل نصوص الوحي خالدة في معانيها، خصوصاً النصوص الكلية ذات الدلالات الواسعة التي تحكم احتياج الناس، من دون عسر ومشقة تنالهم من هذا الامتثال، وهذه المنهجية هي التي تعرف بعلم أصول الفقه، وأساسها الاجتهاد الاستدلالي، ومعايير وجوده جاء ذكرها في حديث النبي عليه الصلاة والسلام عندما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضياً ومفتياً لهم، فقد سأله عليه الصلاة والسلام: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟، قال: اقضي بما في كتاب الله. قال: فان لم يكن في كتاب الله؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فان لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله» (رواه أحمد 5/230، رقمه 242) وهذا التسلسل في أدوات الاستدلال من الأقوى إلى الأقل قوة يرسم وضوحاً منهجياً في طريق المجتهد الباحث عن حقيقة رأي الشرع في ما ينزل في واقعه من مستجدات، والدلالات من الأحاديث والآثار كثيرة، وليس هذا موضع سردها، لكن الحقيقة التي أعرفها بحكم التخصص في هذا العلم، أن أصول الفقه رسمت منهجية منضبطة وفي وقت متقدم من تاريخ العلوم، وكان قصب السبق في ذلك يعود للإمام الشافعي في مؤلفه المشهور «الرسالة» (انظر: كتاب الفكر الأصولي للدكتور عبدالوهاب أبو سليمان، دار الشروق، طبعة الثانية 1984، ص 16،87؛ كتاب مناهج البحث عند مفكري الإسلام للدكتور علي سامي النشار، دار النهضة العربية، طبعة 1984، ص 79 -90)، وفي الآونة الأخيرة اشتدت الحاجة لفهم هذا العلم وتجديده وتنزيله في الواقع التطبيقي بصورة أشمل وأقرب إلى ذهن المسلم المعاصر، ومن خلال أدوات منطقية ومعرفية تجمع ولا تفرق، وتصون الحقيقة ولا تشوهها، ولعل الدكتور طه عبدالرحمن أقرب من وضع هذا التصور من المفكرين المعاصرين، وقد تطرق إلى ذكر فائدة المنهج الأصولي، وجعل الحاجة المعاصرة إليه تتلخص في أمرين: «الأمر الأول: أن هناك إقبالاً على علم أصول الفقه زاد في العقود الثلاثة الماضية تركز في مواقف أربعة: أ- الموقف الذي يجعل المنهج المميز للأصول هو الاستقراء، ويجعل الفلسفة الخاصة به هي «النزعة التجريبية» (على أساس أن الاستقراء هو تتبع جزئيات قضية ما حتى يخرج منها بكلي يقيني ينطبق على أفراد تلك الجزئيات). ب- الموقف الذي يجعل المنهج المميز للأصول هو القياس التمثيلي ويجعل الفلسفة الخاصة به هي النزعة «اللاعقلانية» (ويقصد والله أعلم أن القياس التمثيلي المعروف عند الأصوليين بالقياس جاء من خلال مشابهة بين قضيتين أصل وفرع لعلّة أو وصف جامع بينهما، وكونه لا عقلاني، هو باعتبار مجال المشابهة والتماثل بين الجزءين، وليس من خلال البرهنة والاستنتاج العقلي بلا نظير يعود إليه). ت- الموقف الذي يرى أن المنهج الذي ينبغي إقامة أصول الفقه عليه هو القياس الاستنباطي وأن الفلسفة الخاصة به هي «النزعة العقلانية». ث- الموقف الذي حاول أن يجمع بين المناهج الثلاثة: الاستقراء والقياس والبرهان، ويجمع بين الفلسفات الثلاث المترتبة عليها، وهي التجريبية واللاعقلانية والعقلانية باعتبارها أطواراً ثلاثة تقلّب فيها علم أصول الفقه. والأمر الثاني الذي نقصده من حداثة أصول الفقه، هو أن الاشتغال بعلم الأصول يفتح للباحث الإسلامي باب المشاركة في تنمية الرصيد العلمي العالمي الحديث، وذلك أن علم الأصول يشتمل –على الأقل – على نظريتين اشتدت حاجة الباحثين المعاصرين إليهما، هما:»نظرية الحِجاج» التي ترتكز على المناظرة، و»نظرية التداول» التي تبحث في مقاصد الخطاب». (انظر: سؤال المنهج. في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد، للدكتور طه عبدالرحمن، نشر المؤسسة العربية للفكر والإبداع، الطبعة الأولى 2015، ص 267،268). فعبدالرحمن من خلال نظرته إلى علم أصول الفقه يرى قدرته في معالجة الكثير من الإشكالات الراهنة من الناحية العلمية (التجريبية) ومن الناحية الفلسفية (المنطقية والبرهانية) وبالتالي اجتمعت فيه مناهج عدة وانتظمت في سياق واحد لا تناقض فيه، على رغم تنافرها في واقع الاستعمال الغربي اليوم على سبيل المثال، هذه النظرة المناهجية للأصول فيها إحياءٌ لدوره العقلاني وحججه البرهانية لتنزيله على واقع الأحداث والمواقف والأفكار المعاصرة بشكل أوسع من دوره التقليدي في استنباط الأحكام من الأدلة، ولعلنا في هذا المقام نجري بعض الأمثلة والمحاولات في إعمال المنهج الأصولي بتطبيقه على بعض أدبيات الخطاب الديني المعاصر، من خلال النماذج التالية: أولاً: من المقرر عند جمهور الأصوليين أن الحق واحد لا يتعدد، والمجتهد معذور ومأجور لو اخطأ في الوصول إليه، وأكثر ما يسوغ فيه الاجتهاد هو غالب ما يقع في حياة الناس، ويصوغونه من أفكار، والمحسوم بالقطعية لثبوته ودلالته اليقينية، قليلٌ في الشريعة، وغالب منصوصه يقع في الإجماعات، كأصول العقائد والعبادات والأخلاق، لكن الخلل المنهجي الملاحظ اليوم، هو في ادعاء القطعية في الآراء التي يتبناها عالم أو جماعة، ويتم التوسل في هذه الدعوى من خلال طريقين، الأولى: في ادعاء كون القضية المتداولة هي من باب الاعتقاد الذي أصله اليقين والغيب، وبالتالي لن يسمح بالنقاش ولن يخضع للعقلنة، ثانياً: حسم الرأي نتيجة مآلات يتصورها المدعيّ ويتيقن أن مخالفته سوف تتحول إلى هدم أصل من أصول الدين، وقد يستشهد على ذلك بنماذج نادرة وقعت في المخالفة ثم أدى بها المصير نحو الإلحاد أو الانحراف الكلي عن الشريعة، وهذا التماهي في تحويل كل خلاف إلى أصل عقدي أو مآله سينتهي إلى هدم الدين؛ ضيّق أوسع أبواب الحوار فيما أصله سائغ وحقيقته تقتضي التعدد والاختلاف. ثانياً: يبني على ما سبق، أن الاشتغال الدائم بعلوم الاعتقاد ومواجهة شبهات أهل الكلام قد شكّل في ذهن المشتغل منهجية محددة، قائمة على دائرتين لا يخلو المخالف من وقوعه فيها، فالمجادل في قضايا الفكر وهو مشتغل بعلم الاعتقاد، إما أن يضع مخالفه في دائرة الكفر أو دائرة البدعة، بخلاف المشتغل بالفقه في تعامله مع المخالف، فاستحضار حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار، يجعله يناقش الأفكار مناقشة التوظيف العقدي ومحاولة التأطير البدعي للمخالف، فلا بد من أن يصنف مخالفه بأنه أشعري أو معتزلي أو مرجئي أو سلفي وهكذا، وهذا الإسقاط الفكري على فرق الأمة السابقة مارسه عدد من الباحثين في قضايا الخلاف حول تحكيم الشريعة أو الأخذ بالنظريات الفلسفية أو تبني عمل سياسي أو مواجهة أفكار الحداثة، فبمجرد وجود المشابهة مع تلك الفرق التي امتلأت بها كتب علم الكلام، رمى مخالفه بأحد هذه الأوصاف، ما يوحي بالإسقاط الكلي للفكرة وللشخص القائل بها، في مقابل التنزيه والتقديس لفكر وشخص المدافع عن حياض العقيدة – كما يزعم -، والأمر ليس في مجال المدافعة عن أغلوطات المنحرفين عن الجادة؛ بل في المبالغة بوسم المخالف بحكم شامل يقع تحت تلك الأوصاف الجاهزة فتنسحب عليه كل الأحكام العقدية اللازمة لها. ثالثاً: خلل التعامل مع القضايا الراهنة وفق منهجيات متباينة، خصوصاً في مجال الفتيا المعاصرة، فترى المفتي ينزع في مسائل المصارف بإعمال الأيسر ورفع الحرج، بينما في مجال السياسة والشأن العام بالأشد والأحوط، وما يتعلق بقضايا التعامل مع الآخر يطبق مبادئ التسامح مع قوم، والإنكار مع قوم آخرين، قد يكونون الأقرب له في الدين والوطن، والأسوأ أن تكون الفتيا مفصلة بحسب حال المستفتي من حيث اختيار الأنفع له دنيوياً، وليس الأصلح له أخروياً وذلك بحسب مغانم الكسب المادي، علماً أن اختلاف الأحكام في نوازل الأعيان (الأفراد) قد يُتغاضى عنها، لكن أن تصبح منهجاً عاماً خاضعاً لمزاج الجمهور أو السلطة أو الإعلام فهو الخطر المتوقع على الدين والخلل الواقع على المنهج. رابعاً: يعتمد تنزيل الأحكام على حسن التوصيف للواقع، يقول ابن القيم: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الأخر... «(إعلام الموقعين طبعة دار الكتب العلمية، 1/69). وهذا الواقع قد يدركه الفقيه والمفتي والواعظ والكاتب والشاعر والمصلح بحسب أدوات الفهم له، فإذا كان صاحب النظر متمكناً من العلم ومن فهم الواقع، أحسن التنزيل في ما أراد، ويقع الإشكال المنهجي عندما يبالغ في توصيف الواقع ذماً أو تشاؤماً فيرتدي نظارة سوداء تجعله يحكم على كل شيء يراه بأنه مؤامرة وخطر ويجب التحذير منه وسد الذرائع إليه، ما يفضي إلى حرج وانغلاق يضيّق سعة الشريعة وتنوعها، ولا أغفل أن بعض أولئك النظّار قد يكونون حملةً للعلم والفقه ولكن لديهم قلق أو توتر نفسي أو سرعة في الانفعال وتماد بالغضب، وبالتالي تنعكس هذه الحال النفسية القاتمة على آرائهم ونظرتهم إلى المواقف والأحداث. خامساً: يمتاز علم أصول الفقه بالقدرة على تحقيق صحة الدليل وقوة الاستدلال وثبات تنزيله، وعلى هذا الأساس وضعت معايير وقواعد تضبط سلامة القياس واستنباط العلة وتحقق مناطها؛ سوى الشروط التي لا بد من توافرها في صحة الاستدلال ببقية الأدلة الأخرى، وأيضاً معايير الفهم السليم لدلالات الألفاظ على المعاني، وعلم المناظرة والجدل دليل على ذلك، هذه الميزة العقلية أصبحت ضرورة في عالم يعجّ بالأخبار والنقول والدراسات، تغرقنا بها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الحديثة، وأصبحت منهجية التلقي والفحص للمعلومة شبه غائبة. ونظراً إلى عدم تربية العقل على منهجية التلقي وكيفية النقد لما يُسمع أو يُقرأ، خلق هذا الضعف المنهجي بيئة تروج فيها الإشاعات والأكاذيب بكل سهولة. يكفي أن تحرّض على قبول تصديقها إدخال البُعد الطائفي أو تمهرها باسم عالم أو شيخ جليل لتلقى قبولاً منقطع النظير، كما دفعت هذه القنوات الحديثة المترعة بكل شيء الكثير من الشباب لتبني أفكار في غاية الغرابة والمصادمة لحقائق العلم والواقع، وأتباع «القاعدة» و»داعش» دليل واقعي على ذلك التلقي الأعمى للمعلومات من دون تمحيصها وتحليلها منهجياً. سادساً: إن النظر الجزئي إلى نصوص الشريعة بعيداً عن مقاصدها الكلية، أو الاستدلال الناقص لبعض الأدلة الأصولية من دون مراعاة التوابع والعوارض المؤثرة على تنزيل الحكم على الوقائع قد يثمر شططاً عن الوصول للحكم الصحيح وبعداً عن الظفر بالحق المطلوب. واتفق الأصوليون على ذم التعّجل بالقول على الحكم المستنبط من الأدلة قبل البحث عن كل ما يمكن أن يكون له أثر على سير الدليل نحو إثبات حكم ما؛ من معرفة العوارض المؤثرة على دليل الحكم كالنسخ والتخصيص والتقييد وغيرها. فلا يجوز التمسك بدليل من أدلة الشرع وبناء الأحكام عليه من جهة الاستقلال من دون جمع الأدلة الأخرى المتعلقة به والمؤثرة عليه، أو أن ينظر إليه بمعزل عن عوارض الألفاظ التي تؤثر على فهم المعنى المراد للدليل ذاته أو بمعزل عن مقاصد الشريعة الكلية. (انظر: المستصفى للغزالي 3/ 371 تحقيق حمزة حافظ، 30، البحر المحيط للزركشي ، طبعة وزارة الأوقاف الكويتية، 2/241). ويقول الإمام الشاطبي مؤكداً هذا المعنى: «فكثيراً ما نرى جهالاً يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصاراً بالنظر على دليل ما وإطراحاً للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفرعية العاضدة لنظره أو المعارضة له. وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكاً». (الاعتصام، طبعة دار بن عفان، الطبعة الأولى 1412، تحقيق الهلالي، 1/222)، وهذا الخلل أنتج غالب الجماعات المتطرفة والأطروحات النشاز عن روح الشريعة، وغالب نقد الدكتور طه عبدالرحمن في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث» قائم على من ينقد التراث الإسلامي من بعض الحداثيين من خلال الاجتزاء أو الفصل أو ضعف التمكن لمضامين التراث ووسائله. (انظر: للكتاب، طبعة المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2005، من 19-73) سابعاً: الخضوع للعاطفة ولرغبات ورهبات النفس، وهذا مؤثر في شكل كبير في رؤية الواقع أو فهم الواجب فيه، وكم من جمهور أو مستبد أو منصب أو مال تحكّم في منهجية النظر وصرف الباحث أو العالم أو الواعظ أو المصلح عن قول الحق الذي يعتقده بسبب تأثير هذه العوامل على منهج النظر والاستدلال، لذلك نهى الشرع كما في الحديث: «أن يقضي القاضي وهو غضبان» (الحديث أصله في البخاري رقم 6739) وقاسوا عليها حالات الخوف والجوع وغيرها من المؤثرات النفسية المختلفة، ومن الملاحظات اليوم أن من وقع عليهم ظلم أو سجن أو تشريد، كثيراً ما يرسمون لأوطانهم أو لجماعاتهم خريطة طريق قد لا تخلو من تلبّس مشاعر الغضب والانتقام، فيحصل بها الضرر والفساد الكبير، ولا ينجو من هذا الخلل في الغالب إلا أصحاب النفوس الكبيرة، وفي التاريخ شواهد على ذلك، كمواقف الإمام أحمد أو ابن تيمية أو غاندي أو مانديلا ممن لم يستجيبوا لهتافات الانتقام النفسية والجماهيرية (انظر: فقه الحقائق للكاتب، طبعة دار الذخائر 1420ه، الفصل الثالث من الكتاب). هذه بعض الملاحظات التي يمكن القياس عليها وتوسيع النقاش حولها ومحاولة تأطير العمل بها في دراسات ونماذج ومعايير يحسن تطبيقها للعموم والخصوص، ولعل هذا العمل هو واجب الوقت اليوم، وأهم غرضٍ قد يثمر من استيعابها، هو تخفيف حمّى الشقاق بين أبناء المجتمع الواحد، والقدرة على حسن الفهم للواقع والتفهّم لرأي المخالف، وبالتالي لطف الإعذار لما وقع فيه، ولا يزال علم أصول الفقه منذ نشأته وهو يحمل معه بذور الترشيد والتجديد في كل عصر، ونأمل في عصرنا الحاضر بأن يوقد مشاعل الهداية في التفكير والنظر وتقدير المواقف في الأزمات والأحداث.