هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    إطلالة على الزمن القديم    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلاّمة ابن غديان


سعد بن مطر العتيبي - نقلا عن الاسلام اليوم
كان الشيخ رحمه الله منذ عام 1395 ه، يُدرِّس - بالإضافة إلى عمله في الإفتاء- طلبةَ الدراسات العليا في كلية الشريعة بجامعة الإمام، في مقررات علم: الفقه، والأصول، وقواعد الفقه، وقاعة البحث، وغيرها، ويشرف ويشارك في مناقشة بعض الرسائل العلمية. ومن ذلك تدريسه في المعهد العالي للقضاء، فقد كان أثناء عمله في الإفتاء؛ و كان - رحمه الله - أثناء مرحلة تدريسه لنا يلقي محاضراته في المعهد العالي للقضاء، ثم يعود إلى دار الإفتاء ليكمل عمله هناك.
ومراعاةً لعمله في الإفتاء، كان رحمه الله، ينهي المقرَّر قبل انتهاء السنة الدراسية بأسبوعين أو أكثر؛ ليتمكن من الانتقال إلى مدينة الطائف، المقرِّ الصيفي للإفتاء.
وقد أخبرني ابنه الشيخ الدكتور محمد الغديان - سلمه الله- أنَّ الشيخ رحمه الله: "قد شارك مستشاراً علمياً محكَّماً لبداية تأسيس الموسوعة الفقهية الكويتية؛ إذ كانت تأتي إليه أبحاث هذه الموسوعة، مفرقهً حسب ترتيبها الاصطلاحي ثم يقوم - رحمه الله- بقراءتها ومراجعتها وتحكيمها حسب الأصول العلمية الأكاديمية".
وكان حريصًا على هذا العمل الموسوعي، فقد قال ابنه الدكتور محمد: "كان - رحمه الله- من أشد الناس فرحاً بإصدار هذه الموسوعة كاملة، كما كان - رحمه الله - ينتظر بفارغ الصبر صدور الأجزاء الأولى من الموسوعة الأصولية التي لا تزال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دوله الكويت تعدها".
ثانياً: دروس الشيخ في المسجد:
وأمَّا تدريس الشيخ في الحلقات العلمية في المساجد، فقد كانت بداياته المنتظمة منذ عام 1389ه، إلى قبيل وفاته؛ إذ اشتدَّ مرضه واضطرّ للبقاء في المشفى.
وكان رحمه الله يقوم بتدريس الفقه، وأصوله، والقواعد الفقهية، والحديث ومصطلحه، والتفسير وعلومه، والعقيدة، في حلقات منتظمة غالب أيام الأسبوع حسب الظروف بعد المغرب، وبعد العشاء، وأحياناً بعد الفجر وبعد العصر، وذلك في مدينة الرياض. وتنتقل هذه الدروس معه إلى مدينة الطائف مدة بقائه في الطائف، حيث المقر الصيفي لعمل رئاسة الإفتاء.
هذا إضافة إلى الدروس العامة المعتادة في نجد.. منها ما كان بعد صلاة العصر، وممن كان يقرأ عليه في هذا الوقت شيخنا العابد وصديق الوالد الشيخ المقرئ محمد بن قاسم الجعفري على ما أخبرني به الشيخ عبد الوهاب الطريري حفظه الله. ومنها ما كان قبيل صلاة العشاء – بين الأذان والإقامة –، وأحياناً بعد صلاة العشاء، وذلك حين كان الشيخ إماماً في مسجد ابن مرشد بحي دخنة، وكان ممن قرأ عليه في هذا الوقت آنذاك: الشيخ الدكتور عبد الوهاب الطريري؛ فقد أخبرني أنه قرأ على الشيخ عبد الله كتاب الحج من المنتقى، ومن مشكاة المصابيح، وأنه بعد إتمامه لكتاب الحج من المشكاة، طلب منه الشيخ إعادته مرة أخرى. ولدروس الشيخ العامة طريقة فيها تسهيل وتوضيح يناسبها، كما كان لوعظه طريقة لم تكن مألوفة في نجد على ما أخبرني به الشيخ عبد الوهاب، من أن الشيخ -رحمه الله- كان يُشعِر كلّ فرد ممن أمامه أنه المخاطب بالوعظ! ولهذا الأسلوب أثر لا يخفى.
وكان الشيخ رحمه الله قد اشتهر بالعلم والرجوع إليه في الفتوى حتى قبل استقراره في مدينة الرياض، وذلك حين كان بمدينة الزلفي، التي تعدّ أسرة الشيخ من قدامى أهلها. وكان العبارات المألوفة ما يردّده من يفد إلى الشيخ سائلاً، من أنه جاء ليسأل الشيخ عبد الله الرحيم! وهو اللقب المشهور لعائلة الشيخ حينها وعند أهالي الزلفي، قبل أن يشتهر الشيخ بالغديان.
وفي تلك الحقبة، وفي ذلك المسجد، ظهرت للشيخ -رحمه الله- دروس علمية متخصصة، في علم التفسير والأصول والقواعد. ومما وقفت على خبره - مؤكّداً - من ذلك، ما حدثني به – في مدينة الطائف- معالي الشيخ العلامة الدكتور/ عبد الكريم الخضير - حفظه الله - من أنَّه قرأ على الشيخ عبد الله الغديان: مقدمة تفسير الطبري، ومختصر التحرير، قال: وهو من الكتب المحببة للشيخ رحمه الله، وقواعد ابن رجب. وذلك حين لازمه ملازمة الظلّ – كما يقال كناية عن شدة الملازمة - وذلك عام 1393 و1394 و1395ه.
وكان رحمه الله يصنف الدروس في المسجد (كدروسه في مسجد الإفتاء، التي انتقلت أخيراً إلى المسجد الذي بجوار داره) تصنيفا مهمَّاً؛ فقد سمعته غير مرَّة - منها ما كان حديثاً لنا في الدرس، ومنه ما كان خاصَّاً – يقول ما معناه: الدروس ينبغي أن يكون منها شيء للمدرّس، وشيء منها للطلاب؛ فالذي للمدرّس هو الذي في الكتب التي تفيده قراءتها عليه، والتي للطلاب هي التي تكون للمبتدئين، مما قد لا يكون فيه جديد بالنسبة له.
وكان يعدّ درس ليلة الثلاثاء من الدروس التي يفيد منها هو! وهو أقدم الدروس، ويغلب على من يحضره التخصص والعمل الأكاديمي، ولذلك كان الشيخ يعتني به، ومن ثمَّ كان أكثر دروسه نفعاً؛ وهو درس نخبوي، لا يطيق البقاء فيه من لم يكن له دراسة سابقة في مجالاته. ومن الكتب الرئيسة في هذا الدرس التي استمرت إلى آخر درس له قبل وفاته: الموافقات للشاطبي، والفروق للقرافي، وشرح الكوكب المنير للفتوحي، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، والمنثور للزركشي، وإعلام الموقعين لابن القيم، وشرح مراقي السعود، وغيرها.
وهناك كتب أخرى، تمت قراءتها في درس الشيخ قبل ذلك منها: الرسالة للإمام الشافعي، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني، والمنهاج في ترتيب الحجاج للباجي، والإنصاف للبطليوسي، وبعض رسائل ابن عابدين، والكافية في الجدل لإمام الحرمين الجويني.
وأخرى أضيفت بعد تلك الكتب، من مثل: الاعتصام للشاطبي، وأصول السرخسي، والإشارات الإلهية للطوفي، ومقاصد الشريعة لابن عاشور، وغيرها.
ثالثاً: شذرات في المنهجية أثناء الدرس:
• كان الشيخ -رحمه الله- جاداً في الشأن العلمي؛ ولذلك ربما فحص من يستأذنه في طلب العلم عنده، وربما استخدم أساليب لاذعة مع بعض الطلاب في توجيه أو تنبيه، حتى إنَّ الابتسامة لا تكاد تفارق شفتي عددٍ من الطلاب ممن يُدركون ما يرمي إليه الشيخ، وصاحب الشأن قد لا يشعر لحداثة عهده بالمجلس! وربما عاد الشيخ فلاطف ذلك الطالب تطييباً لنفسه، ولا سيما إذا شعر بعدم استيعابه لمراده؛ ومع ذلك لا يكاد يخلو الدرس من طرفة أو حكاية أو خبر تاريخي قديم أو معاصر، ذي مغزى!
• وكان رحمه الله يحرص على ذكر مظانّ المسألة – عند المرور بها - لمزيد البحث؛ فيحيلنا إلى بعض أهم مواضع بحثها.
ومن أمثلة ذلك: ما جاء في تعليقه على كتاب قواعد الأحكام: فصل فيما يُثاب عليه من العلوم. إذ قال رحمه الله: "المقصود من هذا الفصل أن في هذه الشريعة قاعدة عامّة، هي قاعدة التفاضل، وقد يكون في ذات الشيء أو صفاته أو زمانه أو مكانه، أو من جهة الأقوال والأفعال باعتبار ما يترتب عليها من آثار.
ومن أراد التوسع فليرجع إلى آخر الجزء الثاني من الفروق، وتفسير ﴿وربّك يخلق ما يشاء ويختار﴾، وقد تكلم عليها ابن القيم في أوّل زاد المعاد". أه.
ومن أمثلته أيضاً: تعليقه -رحمه الله- على ما جاء في كتاب (تخريج الفروع على الأصول للزنجاني)، في المسألة الأولى من كتاب الصلاة، أن المصيب واحد في المُجْتَهَدات. إذ قال رحمه الله: "أحسن من تكلم على هذا، الشاطبي في الموافقات، الجزء الرابع". أه [قبل صدور طبعة الشيخ مشهور].
• وكان رحمه الله من أكثر العلماء المعاصرين عناية بعلم أصول الفقه، الذي هو سور النصوص من اللصوص، وكذا القواعد الفقهية والمقاصدية، وكذلك كل ما يخدم المنهجية العلمية من العلوم، كمعرفة أسباب الخلاف، وأوجه الاستدلال، ومصطلحات المذاهب الفقهية العامة، ومصطلحات الفقهاء الخاصة؛ وذلك في قاعات الدراسات النظامية، وفي حلقات المساجد.
وكان الشيخ يؤكد على أهمية فهم كلام أهل العلم على مرادهم، لا أن يقولوا ما لم يقولوه بقلة علم أو بسوء فهم. ولهذا لم يكن يرجح إلاّ نادراً؛ بل سمعته غير مرّة يقول لمن يسأله عن رأيه في بعض المسائل المشكلة التي تمر بنا في الدرس: المهم أن تفهموا كلام أهل العلم، أما ترجيحي فليس مهماً!
ولذا فقد كان الشيخ -رحمه الله- يعجب كثيراً من المنتسبين للبحث الشرعي من المعاصرين ممن لا يفهمون كلام أهل العلم؛ لقصورهم في هذه العلوم التي لابد منها للفقيه المؤصَّل، ويصف طرحهم بأنه كثيراً ما يصدر عن فكر مجرد، لا صلة له بالبحث العلمي وأصوله.. وكان ذلك ظاهراً في تأكيده المتكرِّر على الفرق بين الحديث العلمي والكلام الفكري المجرد، وقد سمعته غير مرّة يقول لبعض السائلين: (هذا كلام عن علم أو كلام من فكرك)؟
وقد ذكرت هذه الفائدة عن الشيخ في جواب كتبته عنه في حياته رحمه الله، وهذا نصّها: "... ثم إنَّي أنبّه هنا إلى أهمية التفريق بين الطرح الفكري والطرح العلمي، فالطرح الفكري له مجاله، والطرح العلمي له مجاله وأدواته؛ ومن ثم فإنّ الخلط بين المنهجين، واستعمال أحدهما في مجال الآخر يُنتج آثاراً غير مقبولة عند أهل العلم؛ وكم سمعت شيخنا العلامة الأصولي الكبير الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان، يحذر من الطرح الفكري في مسائل التحقيق العلمي، ويرى أن كثيراً من الخطأ الموجود في الساحة من طلبة العلم في المسائل العلمية يعود إلى هذا الخلط المنهجي". (براءة العلامة ابن باز من القول في التطبيع بالجواز).
قلت: والحديث في الشرعيات من الفكر قبل استيفاء البحث، قضيةٌ وجدتُ العلامة ابن السمعاني -رحمه الله- قد عدَّها في من أسباب التساهل في الفتوى.. وهو أمر مشاهد، بل رأينا من يتحدّث في الشرعيات ممن لا صلة له بالعلم الشرعي، أو كان له بها صلة لكنه نسي أصولها، كبعض من تخرجوا في الشريعة ثم أعرضوا عن العلم حتى عادوا إلى الجهل بها جهل العامي سواء بسواء؛ ولعل هذا ما حمل الشيخ على العناية بعلم الأصول والقواعد وطرائق استثمار النصوص.
قلت -كمراقبٍ للحراك الفكري-: وكم من واصفٍ نفسَه، أو موصوفٍ من مثله ب (الباحث الشرعي أو باحث شرعي)، وهو أفقر ما يكون إلى أصول البحث الشرعي وشرائطه!
وكم زاعمٍ في نفسه القدرة على كتابة البحث الشرعي، وما هو إلا جمّاعٌ انتقائي، لا يعي معنى كثير مما يجمع، إلاّ جملة الترجيح التي يناضل من أجلها! ثم يزعم أنه يدين الله بما وصل إليه في بحثه؟! وهذه طريقة مرفوضة عند أهل العلم، سواء كانوا من أصحاب المدرسة التقليدية؛ فإنَّهم لا يعتبرون العلم إلاّ عن أهله ممن أفنوا جزءاً كبيراً من أعمارهم في التحصيل والتأصيل، حتى عُرفوا بين أهله بذلك، أو أصحاب الطريقة الأكاديمية في مؤسسات التعليم الأكاديمي، التي لا تقبل بحثاً إلاّ بعد فحصه من اثنين من أساتذة التخصص على الأقل، فيما يُعرف بآلية (تحكيم البحوث) التي يوصف البحث بعدها بأنه (بحث محكّم)، أي أنَّه ذو قيمة علمية استوفى شرائطها عندهم.
• وكان للشيخ -رحمه الله- طريقة في الحديث العلمي، تأثرت بها طريقته في الفتوى، وهي إرجاع المسائل إلى أصولها وكلياتها وقواعدها، وربطها بما يفيد في تنزيلها على الواقعة بغض النظر عن صحة السؤال وسلامته؛ ولذلك ففتاوى الشيخ رحمه الله حصينة عن التوظيف العابث بها، كما أنها مدرسة في التقعيد وبناء الملكة الفقهية، فليست مجرد أجوبة وقتية تختص بما ورد من أسئلة.
• وكان من منهجه رحمه الله، حمل كلام أهل العلم المحتمِل على ما يُظنّ بهم من العلم والصلاح، بعيداً عن سوء الظن. بل لقد كان رحمه الله ينهى الطلاب عن الشطب على ما يُظن خطؤه طباعة، لأسباب منها: احتمال صحته، واحتمال خطأ الفهم عند المصحِّح، ولاسيما عند عدم كفاية الوقت في التأمل والبحث الذي يمكن اختبار صحة نتيجته.
ومما لا يمكن نسيانه في هذه الفقرة، ما نراه منه من استياءٍ حين يمرّ بنا في الدرس شيءٌ مما لا يُرتضَى، فتجد الشيخ يسارع الدقائق والثواني في تجاوز تلك المخالفة أو ذاك التأويل المردود، شأن من يحرص على ستر عيبٍ لا يخلو منه بشر، وكأنَّه يذود بفعله ذلك عن حبيب أو قريب!
وقد حدثني ابنه الدكتور/ محمد أنه تعامل بمثل هذا الأسلوب وهذه الروح، في نصيحة بعض طلاب العلم، ممن زلّت بهم القدم أو تاه بهم الطريق عن سلوك المسالك الشرعية في معرفة الأحكام، سواء كان ذلك على انفراد أو بوساطة الهاتف؛ فرحم الله هذه الروح رحمة واسعة، وعاملها الله بعفوه وكرامته فإنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
فهذا شأن من يعرف قدر أهل العلم، ولا يأخذهم بالزلَّات.. فيا سبحان الله! أين هذا الخلق ممن يبتهجون جذلاً بوجود زلَّة لعالم هنا أو داعية هناك، وجعلها معول هدمٍ لقامة علَمٍ أو صرح علمٍ أو مجتهدٍ في الدعوة؟! في الوقت الذي سلم منهم أعداء الدين وخصوم الشريعة والمتربصون بها ليل نهار.
• ومن منهجه رحمه الله، أنه كان يعتني بالمسائل المهمة علمياً، ولا يحب التوقف عند المسائل التي تقل فائدتها العلمية؛ بل إنَّه يأمرنا بتجاوز المباحث الكلامية الخالصة التي ترد في كتب الأصول، كما وقع في كتاب (شرح الكوكب المنير) الذي كنت أشرف بقراءته عليه، وكما وقع في بعض كتب أسباب الخلاف، ككتاب (الإنصاف) للبطليوسي في بعض مواطن التأويل المخالف، بل إنَّه يتجاوز بعض المباحث التي يتوقف عندها بعض المتخصصين في أصول الفقه ويضيع فيها وقتاً كثيراً، بينما يقول لنا الشيخ رحمه الله: ما فيها شيء! وهو في مثل هذا الموطن، يعني: أنها لا تستحق التوقف عندها! فينتقل القارئ إلى ما بعدها، أو يمرّ بها مروراً عابراً. وقد يستخدم الشيخ عبارته السابقة في المسائل التي تكون مفهومة لا تستدعي التوقف عندها لوضوحها.
• وكان للشيخ -رحمه الله- عناية خاصة بالكتب والرسائل العلمية؛ ولتقييمه للكتب والرسائل وطبعاتها وزن خاص؛ وقلّ أن يثني على كتاب معاصر لعدم قناعته بقوة البحث فيه أو أصالته، لكنه ربما أوصى ببعض الكتب المعاصرة المتميزة، وأكّد أهميتها في غير موضع.
رابعاً: تراث الشيخ:
للشيخ -رحمه الله- تراث كثير وكبير؛ وفي ظني أنَّ الشيخ -رحمه الله- وجد في بيئة دون مستوى تحصيله وفكره.. وكأنَّ هذا المعنى مما حال دون اشتغاله بالتأليف! إضافة إلى انضمامه إلى مدرسة الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمهما الله!- تلك المدرسة التي ترى الاشتغال ببيان العلم الأثري المكتوب، لتلاميذهم؛ لكي يرتبط اللاحق بالسابق، فيبقى العلم محفوظاً بأصوله، بعيداً عن الاستحداث في المناهج.
وهو منهج له وجاهته، ولا بد منه لاتصال الحاضر بالماضي، وضمان الاستقامة على قواعد الفهم وأصول الاستنباط الصحيح. فكم جنى الاستحداث في المناهج الشرعية بمعزل عن طريقة الأوائل من خلل!! فأنت ترى من خالفوا منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد، قد استحدثوا مناهج كلامية لا قرار لها في العلم، ولا يقين بها في الاعتقاد؛ فكم جنت تلك المناهج على منهج أهل السنة والجماعة!! وكم وقع بها من الغواية والهلاك!! ولن أنسى يوم أن كنا ندرس شرح الطحاوية في المرحلة الجامعية، وكانت تمرّ بنا النقولات الكلامية التي هي أبعد ما تكون عن أدب المخلوق مع الخالق فضلاً عن الأنبياء والرسل؛ فنجد أنفسنا أحوج ما نكون إلى شيءٍ من طراوة قراءة القرآن بعدها، والمرور على شيءٍ من صحيح الرقائق، كما نصحنا بعض المربين من أساتذتنا في علم الأصول آنذاك!
وأنتَ ترى - أيضاً - من ينسف دلالاتِ الإجماع استناداً إلى عدم القناعة بمعنى الإجماع عند المتكلمين من المؤلفين في علم الأصول، من الذين وضعوا للإجماع معنى يستحيل وجوده! وما كان هو الإجماع الذي أحال إليه الشرع ولا هو الاتفاق أو عدم الخلاف الذي دلّ عليه الدليل و احتج به كبار الفقهاء.. وكذا الشأن في علوم الحديث، التي لوث المتكلمون بعض مباحثها مما لا شأن لعلم الكلام به. بل لقد رأينا مناهج يتفرد فيها بعض طلبة العلم بالأحاديث تضعيفاً لأفرادها، ويعقبه بطرد الحكم على مجموعها وتقليص دلالاتها، ثم نسف ما بنى السلف من أحكام على مجموع المرويات مما يمكن الاستناد إليه فقهاً، حتى لو كان الحكم فيه محل اتفاق سابق لما قد يوجد من خلاف؛ فأسقطوا دلالة جملة المرويات ودلالة الاتفاق معاً! فأحدثوا من الآراء ما هوش به من هوش؛ فوجدنا من يهوّن من بعض كبائر الذنوب استناداً إلى زعمه ضعف الحديث الذي عليه مبنى الحكم، وجعل نفسه في مقام بعض من صحَّحه وأنزله منزلة الاحتجاج به من أئمة الشأن الأوائل؛ بل وجدنا من من المنتسبين لطلب علم الحديث من يقلل من شأن أحكام الترمذي والنسائي وابن خزيمة وغيرهم من أهل الحديث رواية ودراية، وربما حار بعض هؤلاء في صحة بعض الأحاديث التي لا تؤيد آراءهم؛ فنقّبوا عن تأويلات تُحرِّف الكلم عن مواضعه، وادّعوا ذلك تحقيقاً وتمحيصاً وربما تجديداً، وبلغت بهم الجرأة حدّ التأليف والنشر.. والحديث هنا عن المنهج لا عن النوايا.. وهو أمر يطول الحديث فيه، لكنها إشارة ليس إلاّ، و حسب النذير نداء بلا أداة، هذا إن لم يُفهم مرادُه على غير وجهه.
وعوداً على بدء.. فإنَّ عدم اشتغال شيخنا عبد الله الغديان- رحمه الله - بالتأليف، ربما صرف بعض النّاس عن تراثه؛ لتوهمهم ارتباط ذلك بالتأليف.
ولكن الناظر حقيقة تراث الشيخ في إرثه العلمي والتأصيلي، وفي تلاميذ الشيخ ممن تبوؤا أماكن علميه عالية في كليات الشريعة في جامعة الإمام، وجامعة الملك خالد، وجامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية، وجامعة الطائف وغيرها، وما أثرى به أولئك الساحة العلمية من مؤلفات ورسائل علمية ألفوها أو أشرفوا عليها أو ناقشوها، يجد للشيخ أثراً في طرحهم ونوعية مصادرهم وتنوّع مراجعهم. وكم طالب أخذ علم شيخه فنشره!! وكم مؤلَّفٍ لتلميذ لولا الله ثم شيخه لما قدر على نظم علومه!! وكم تنبيه أو فائدة بلغت الآفاق في نفعها لأهل العلم فضلاً عن غيرهم!! وكم من تلميذ قرّب علمه شيخه فساهم في نشر علمه وفكره!! ومن الذي ينكر أثر تلاميذ الإمام أحمد في تقريب تبليغ علمه وتقريبه، وأثر ابن القيم في تقريب علوم ابن تيمية رحمهما الله! بل قيل: لولا أن الله هيأ للأئمة الأربعة تلاميذ يبلغون علومهم لاندرست مذاهبهم، كما اندرست مذاهب غيرهم. وكم من صالحي العلماء من يتمنى لو انتشر علمه من غير أن يُنسبَ إليه؛ رجاء كمال الثواب!
ورحم الله من قال: لو لم يكن للعالم إلاّ طالب علم واحد ينتفع النّاس بعلمه لكفاه ذلك الطالب؛ فإنه لا يصل شيءٌ من علمه إلى أحد، فينتفع به إلاّ كان له نصيب من الأجر.
ومن هنا فينبغي ألاّ يدَّخر تلاميذ الشيخ – وهم كثر بحمد الله - جهداً في نشر علمه؛ فإن لم يكن فلا أقل من جمعه لمن ينشره؛ فهو مدرسة في التأصيل نادرة، ولا يخلو طالب علم جاد من فوائد مدونة عن الشيخ يتيقن نسبتها إليه، من شرح أو تعليق أو جواب سؤال، ونحوه.
وكما أنَّ للشيخ شروحاً وتعليقاتٍ، فإنَّ له آراءً واختياراتٍ وتنبيهاتٍ غاية في الأهمية العلمية وبناء الملكة الفقهية. وسأختار بعض تعليقاته من واحد – فقط- من الكتب التي درَّسها في المسجد.
فمن ذلك على سبيل المثال: قوله في تعليقٍ له على كتاب (تخريج الفروع على الأصول للزنجاني) مبيناً تعدد مدلول مصطلح القياس في كتب الفقهاء: طرد القاعدة في فروعها يسمّى قياساً، مثل: الأصل في الشريعة أن الأمور بمقاصدها... وقد يكون القياس في المقاصد، مثل: القياس أنَّ الشارع لا ينهى إلاّ عمّا فيه مفسدة. وقد يكون القياس المعروف.
ومنها: قوله في تعليقٍ له عند المسألة الثانية من كتاب الطلاق في ذات الكتاب: "قاعدة تغيّر الأحكام بتغيّر الأحوال والأزمان... هذه القاعدة من تغيّر التطبيق لا من تغيّر التشريع". أه.
وهذا تنبيه مهم جداً، ولا سيما في مجالات السياسة الشرعية؛ فإنَّ من قواعدها: التدرّج في التطبيق؛ وهي قاعدة تختلف عن التدرج في التشريع الذي لا شأن للفقيه به في الفتوى؛ لأنَّه من قواعد التشريع الإلهي الذي انتهت مدته بانقطاع الوحي.
ومن ذلك قوله أيضاً: "لا يلزم في المسائل الحادثة أن تستند إلى دليل جزئي؛ لأنّه إذا وجد دليل جزئي فلا إشكال. لكن نردّها إلى قاعدة الشرع العامة في جلب المصالح ودفع المفاسد؛ لكنّ هذا يحتاج إلى مجتهد!".
وهذه التنبيهات يعرف أهميتها لطالب العلم من عانى الفقه تنظيراً وتطبيقاً كالشيخ رحمه الله، وهي مما يختصر الطريق على طالب العلم.
والحق أن من جمع بين علم الأصول وعلم الفقه، ولم يقتصر على أحدهما؛ فإنه يكون غالباً من أدرى الناس بفقه السياسة الشرعية وقواعدها؛ بل إن صاحب (الغصون المياسة اليانعة بأدلة أحكام السياسة)، قد بنى كتابه هذا (وهو في السياسة الشرعية) على المزج بين علم الأصول وفقه السياسة الشرعية.. وهو ما وجدت حقيقته في دروس الشيخ رحمه، ولا شك أنه يورث فهما للسياسة وقوة في تأصيلها، ولا سيما في هذا العصر.
ومن أمثلة اختياراته التي خالف فيها بعض كبار شيوخه وأقربه إليهم: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، قول شيخنا -رحمه الله- في تعليقٍ له على المسألة السابعة من كتاب الطهارة في كتاب تخريج الفروع على الأصول للزنجاني: "المجاز من جهة اللغة لا أحد يستطيع أن ينكره؛ أمَّا في العقائد فلا يجوز المجاز فيها؛ لأنَّها مما استأثر الله بعلمه" قال: "وسمعت الشيخ الشنقيطي يقول: لو قلنا إنَّها كلّها حقائق، ولكن الحقائق مختلفة".
وللشيخ رحمه الله تجارِب في استعمال القياس العقلي في الشرعيات. ومن ذلك قوله في أحد تعليقاته على شرح الكوكب (ج4، ص 13) عند قوله: "رجوع القياس الشرعي إلى العقلي من كونه على أربعة أركان ".. قال رحمه الله: العلة المادية، والصورية، والفاعلية، والغائية. ثم قال رحمه الله: وأنا طبقت هذه الأركان عدّة مرات، وهو جارٍ في جميع أبواب الفقه؛ فكتاب الطهارة مثلاً: المادية = الماء، والصورية = كيفية الوضوء، والفاعلية = المتوضئ، والغائية = استباحة الصلاة.
ثم قال رحمه الله: وهذا مفيد في التنظيم. أه
ومن الفوائد التي قلّ أن تجدها في كتابٍ، قوله فيما معناه: إذا أردت معرفة أسباب الخلاف، ولم تجد من نصّ عليها، فانظر في توجيه المستدلين من أصحاب الأقوال لما يوردونه من أدلة؛ فإنَّ هذا من طرق معرفة أسباب الخلاف!
وقد جربت ذلك كثيراً؛ فوجدته عظيم النفع في هذا الباب، وهو مفيد – أيضاً - في الجواب، ويورث القناعة للباحث؛ إذ إنَّ معرفة أسباب الخلاف، والجواب عنها، شرط من شروط صحة الترجيح بين الأقوال والآراء.
ومما أودّ تأكيده في هذه المقالة: أنَّ الشيخ رحمه الله، وإن لم يخلف مؤلفاً خاصاً، إلاّ أنَّ له -رحمه الله- آثاراً علمية عظيمة باقية؛ منها ومن مظانَّها ما يلي:
1- أنَّ للشيخ -رحمه الله- جهداً تأسيسياً مشكوراً في تقرير علم الأصول والقواعد الفقهية ومناهج البحث -ونحوها من العلوم المهمة في بناء الملكة الفقهية والتأصيل العلمي الأصيل، وذلك في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد أكَّد لي ذلك ابنه فضيلة الشيخ الدكتور سعود سلمه الله.
2- أنَّ الشيخ -رحمه الله- أحد الشخصيات الرئيسة في فتاوى اللجنة الدائمة، وفي قرارات هيئة كبار العلماء، كما مرّ.
3- أنَّ الشيخ -رحمه الله- ترك تراثاً علمياً كبيراً في مجموع فتاوى برنامج (نور على الدرب) العريق، الذي بثته إذاعة القرآن الكريم وغيرها في المملكة العربية السعودية. و كمُّ فتيا الشيخ فيه ليس بالقليل؛ فإنَّه رحمه الله تولى الإفتاء في برنامج (نور على الدرب) منذ وفاة سماحة الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- عام 1402 ه؛ ولذا فهو جهد كبير يستحق العناية به، ولا سيما في أقسام أصول الفقه في المؤسسات الأكاديمية، وفي بحوث القواعد الفقهية وغيرها من موضوعات تلك الفتاوى؛ لما تميز به منهج الشيخ -رحمه الله- في الجواب من تقعيد وتأصيل. وقد أوصى بالعناية بها إمام الحرم المكي فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس في مقالة له عن الشيخ -رحمه الله- يحسن الرجوع إليها.
4- أن للشيخ -رحمه الله- تعليقاتٍ مهمةً على رسالة ضخمة، وهي أطروحة ابنه الشيخ الدكتور سعود التي هي في طريقها للنور قريباً إن شاء الله تعالى.
5- أنَّ للشيخ -رحمه الله- تعليقات كثيرة، وتأصيلات مهمة دوّنها في مجلسه عددٌ من تلاميذه، ممن سبق ذكرهم أو الإشارة إلى مواقعهم العلمية، ومن أقدمهم ملازمة للشيخ وأخذاً عنه معالي الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله، وشيخنا الأستاذ الدكتور عياض السلمي الذي كان ينقل لنا بعض آراء الشيخ أثناء تدريسه لنا في كلية الشريعة، كما نقل بعض آراء الشيخ في بعض مؤلفاته ومنها رأي الشيخ في تحقيق بعض كتب الأصول.. و من أكثر تلاميذ الشيخ عناية بتعليقاته وتدوين آرائه، ممن لازموه إلى حين توقف دروسه قبل وفاته: الشيخان/ الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم بن قاسم، والشيخ الدكتور صالح بن عبد العزيز العقيل، إضافة إلى عدد من تلاميذه، ممن كانوا يكتبون جلّ ما يقوله كالأستاذ إبراهيم العبيد، والأخ أنس العقيل، وغيرهم من الأساتذة الفضلاء والإخوة الكرام.
6- ثم إنَّ للشيخ إملاءات مهمة على قلتها، كما في درسه في جامع الراجحي، وهي مسجلة.
7- ثم إنَّ من مظانّ علم الشيخ المقطوع بها: ما دوّنه أولاده – بنين وبناتٍ- عنه في شتى التخصصات التي اشتهر بها الشيخ رحمه الله؛ فمن أبناء الشيخ من هو متخصص في القواعد الفقهية كالشيخ سعود، وإحدى بناته، ومنهم من هو متخصص في الفقه كابنه الدكتور محمد، والشيخ بندر، الذي هو مرحلة الدكتوراه في قسم الفقه بالمعهد العالي للقضاء، واثنتين من بناته: إحداهما دكتورة والأخرى محاضرة في قسم الفقه بكلية الشريعة.
كما أنَّ له -رحمه الله- عدداً من الأولاد، منهم المتزوج، وذو الأولاد وجلّهم جامعيون، ومنهم من هو في الطريق وفقنا الله وإياهم وبارك في الجميع. ولا يخلو أحد منهم من فائدة أو خبر عن الشيخ؛ ولا سيما أن لبعض بنات الشيخ أسئلة علمية ومدارسة كانت تتم بين صلاتي المغرب والعشاء غالباً، وهو وقت الشيخ مع عائلته. ومن بناته المتزوجات من تهاتفه في شيءٍ من الفقه والاستشارة.
وهكذا سيجد الباحث عن تراث الشيخ كمَّا هائلاً وعلماً غزيراً، وتأصيلاً عميقاً، للكثير من القضايا المعاصرة فضلاً عن غيره.
خامساً: رأي الشيخ وأهميته:
وأمَّا رأي الشيخ واستشارات الناس له، واللجوء إلى رأيه، فأمر يكفي في التنبيه إليه: أنَّه من الشخصيات التي لا يكاد يُستغنى عن رأيها في هيئة كبار العلماء وفي اللجنة الدائمة للإفتاء، بل ربما أُجّلت بعض الموضوعات في حال غيابه إلى حين حضوره.
وكذا الشأن خارج دائرة العمل؛ فربما استأذن الشيخ تلاميذه وخرج من الدرس برهة قد تمتد حتى يصرفنا؛ ليبدي رأيه لمسؤول قصده في المسجد أثناء الدرس، ومنهم من يأتي بعد الدرس أو قبله، وهم في الغالب من الأعيان، وأحياناً من كبار تلاميذ الشيخ، ممن اشتغلوا في مناصب إدارية علمية أو دعوية أو إدارية قضائية، أو كانوا من أعضاء مجلس الشورى، أو مسؤولي الجامعات أو غيرهم.
هذا فضلاً عن استشارات تلاميذه له.
ولعلي أختم بآخر استشارة طلبت فيها رأي الشيخ رحمه الله؛ فقد استكتبت في أحد الموضوعات ضمن مناشط إحدى المؤسسات العلمية في المملكة؛ وكان ذلك إثر آخر درس كان له في هذه الدنيا، حين أخذني بيدي، بعد أن اقتربنا من باب داره، وقال: لا تشارك في هذا الموضوع! فبينت له بعض الإيجابيات، فاستدار إليّ بكل جسده - وكنا نمشي سوياً - مديراً ظهره لبعض الطلاب الذين يمشون إلى جانبه وقد رفع صوته من شدّة حرصه: اسمعني! لا تكتب في هذا الموضوع؛ ولثقتي في رأي الشيخ ومعرفتي بحساسية ذلك الموضوع، قلت له: أبشر يا شيخنا، سوف أعتذر منهم، فأخذني ناحية وبيّن لي بعض الأسباب التي تؤيد رأيه، مما زادني قناعة برأيه، فقبلت رأيه عن قناعة، وقبّلت رأسه، وودعته وانصرفت إلى السيارة؛ ثم اتصلت مباشرة بالمسؤول عن ذلك الموضوع، واعتذرت عن الكتابة لهم.. وقد رأيت بل واستمتعت بالآثار الحسنة لأخذي برأي الشيخ رحمه الله! مع أن بعض تلك الآثار لا علاقة لها بذات الموضوع، فدعوت له، وكان حينها قد دخل المشفى رحمه الله..
وما أحسن أن تجد شيخاً أبوياً، راسخاً في العلم يعلمك، وهو ذاته من تستشيره لقوة رأيه ورجاحة عقله، وصدقه في النصح؛ فتخرج مقتنعاً برأيه، ثقة فيه، إضافة إلى وجاهة ما يورده من تعليل لرأيه.
وها هي ذا الكتابة عن الشيخ في هذه المقالات تتوقف عند هذا الحدّ؛ إذ كان الغرض منها التنبيه إلى شيءٍ من علم الشيخ وعمله؛ ليجد فيها السالك تشجيعاً في السلوك، ويجد فيها الباحث الشرعي تراثاً علمياً وتطبيقاً عصرياً؛ ليتصل علم السابق باللاحق على نهج صحيح، بعيداً عن الانحراف والتحريف؛ فقلّ أن تجد مثل الشيخ خريج المدرسة التقليدية المؤصّلة، والمدرسة الأكاديمية المنظّمة.
رحم الله شيخنا عبد الله بن عبد الرحمن الغديان، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، وجمعنا به في جنته برحمته وفضله..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.