من أعظم النعم بعد الإيمان العافية والأمن، فالأمن أصل تقوم عليه الحياة الإنسانية بجميع مجالاتها واختلاف أنشطتها، ولهذا امتن الله عز وجل على بعض خلقه بنعمة الأمن وذكرهم بهذه المنة ليشكروه عليها ويعبدوه في ظلالها في قوله تعالى:" أو لم نمكن لهم حرماً أمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون" ( القصص 57) وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد حاجة الإنسان للأمن في قوله:" من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" رواه الترمذي وقال: حديث حسن.. أمن المجتمعات وأمن المجتمعات من أعظم مقاصد الشريعة ومن أهم واجبات إمام المسلمين، إذ الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولولا الولاة لكان الناس فوضى مهملين وهمجا مضيعين"1". يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله في بيان الترابط بين الأمن في المجتمع وكونه مقصداً من مقاصد الشرع الحكيم:" إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان لنا من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرأة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان.."2" ولهذا فالإخلال بالأمن وزعزعة الاستقرار وإرهاب المسلمين والمستأمنين إنما هو إفساد في الأرض وإجرام في حق الخلق يناقض مقصد التشريع العام. أعمال التفجير والتخريب وقد شهدت الأحداث الأخيرة من أعمال التفجير والتخريب، الترابط الوثيق بين العطن الفكري والتحجر الفقهي وبين تهديد الآمنين وسفك دماء المعصومين. وفروع الفقه الإسلامي التي سودت مئات الكتب والمصنفات الفقهية قد تتسع لأولئك الغلاة أن يجدوا في زواياها وبين طياتها ما يبرر فعلهم من أقوال لبعض فقهائنا الكبار، أو اجتهادات مبنية على استدلالات في قضايا معينة، ومن ثم جعلت منهجاً وتأصيلاً لتلك الأعمال العدوانية. مكامن الانغلاق الفقهي ولعلي أبين مكامن الانغلاق الفقهي قي مثل هذه المناهج وأثره على زعزعة استقرار البلاد وامن العباد , من خلال النقاط التالية: أن النظر لنصوص الشريعة بعيدا عن مقاصدها الكلية , أو الاستدلال الناقص لبعض الأدلة الأصولية دون مراعاة التوابع والعوارض المؤثرة على تنزيل الحكم على الوقائع قد يثمر شططا عن الوصول للحكم الصحيح وبعدا عن الظفر بالحق المطلوب. وقد اتفق الأصوليون على ذم التعجل بالقول بالحكم المستنبط من الأدلة قبل البحث عن كل ما يمكن أن يكون له أثر على سير الدليل نحو إثبات حكم ما , من معرفة العوارض المؤثرة على دليل الحكم كالنسخ والتخصيص والتقييد وغيرها , فلا يجوز التمسك بدليل من أدلة الشرع وبناء الأحكام عليه من جهة الاستقلال دون جمع الأدلة الأخرى المتعلقة به والمؤثرة عليه , أو أن ينظر اليه بمعزل عن عوارض الألفاظ التي تؤثر على فهم المعنى المراد لذات الدليل او بمعزل عن مقاصد الشريعة الكلية"3". جهال يحتجون بأدلة فاسدة والمتأمل لحال من جعل السيف منهجه في التغيير وألزم بهذا الاتجاه, قد لا يختلف حاله عن حال كثير من أهل البدع الذين خالفوا أهل السنة في كثير من أبواب الاعتقاد بناء على قصورهم الفقهي والاجتهادي في جمع أطراف المسألة واحكام جوانبها الاخرى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء القليل قبل أحكامه وجمع حواشيه وأطرافه)"4". ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله مؤكدا هذا المعنى: ( فكثيرا ما نرى جهالا يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيحة اقتصارا بالنظر على دليل ما وإطراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفرعية العاضدة لنظره أو المعارضة له , وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا)"5". ولا يخفي الأثر السيئ لانحراف هذه الفرق عن منهج اهل السنة والجماعة وما أحدثته من فتن وقلاقل وتفريق بين المسلمين. مفاهيم ضرورية هناك قضايا فقهية يجب إثارتها في موضوع الجهاد , إذ قد يفهم أن بروز الكفار للمسلمين في القتال وهو وحده الموجب للجهاد , وهذا نوع انغلاق في فقه المسألة فالجهاد مقيد وجوبه بتحقق الظفر او النكاية بالعدو , وقد نص كثير من الفقهاء على تحريم القتال في صور منها: أن يغلب على الظن غلبة العدو على المسلمين أن يتخذ العدو من المسلمين تروسا له يحمي بها نفسه "6" . يقول ابن جزي رحمه الله: ( وإن علم المسلمون أنهم مقتولون فالانصراف أولى، وإن علموا مع ذلك أنهم لا تأثير لهم في نكاية العدو وجب الفرار. وقال أبو المعالي : لا خلاف في ذلك "7" . يقول الشوكاني رحمه الله: (إذا علموا (أي المسلمون) بالقرائن القوية أن الكفار غالبون لهم مستظهرون عليهم فعليهم أن يتنكبوا عن قتالهم ويستكثروا من المجاهدين ويستصرخوا أهل الإسلام . وقد استدل على ذلك بقوله تعالى: ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة 195. وهي تقتضي ذلك بعموم لفظها وإن كان السبب خاصا .. ومعلوم أن من أقدم وهو يرى أنه مقتول أو مأسور أو مغلوب فقد ألقى بيده في التهلكة "8". ومعلوم أن تقدير هذه المصالح العامة المتعلقة بالجهاد أو تقدير ضدها ليس متروكا لآحاد المسلمين بل هو شأن أهل الحل والعقد من علماء المسلمين وقادتهم وأمرائهم على أن يراعوا شروط تحقق المصلحة المعتبرة شرعاً بعيداً عن الأهواء والحظوظ الخاصة، وهذه الشروط التي ذكرها الأصوليون في المصلحة المعتبرة ينبغي أن تراعي من قبل أهل النظر، وهي :عدم مخالفة المصلحة للنصوص الشرعية الصريحة ولا مقاصد الشريعة الكلية، وأن تكون المصلحة حقيقة غير متوهمة، ويقينية أو ظنها غالب، وأن تكون عامة لا تقتصر على فئة بالمصلحة ويتضرر منها الآخرون "9". كل ذلك ينبغي أن يفقه من تشريع الجهاد . أما أن تقحم الأمة كلها في معركة غير متكافئة العدد والعدة ولم تستكمل الأمة إعدادها النفسي والإيماني والعسكري فهذا لاشك أنه خلل في فقه الواقع وفي تنزيل الأحكام عليه، ومن جهل ذلك لم يحل له أن يفتي أو أن يستنبط الأحكام ويجتهد فيها. يقول ابن القيم رحمه الله : ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم : أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر .."10" وبذلك تكتمل جوانب المسألة ويفقه الناظر صورتها الكاملة ليكون أقرب لقطف الحكم الصحيح . الخلل في منهج التلقي للأحكام 2 إن الخلل في منهج التلقي للأحكام أورث خللاً أكبر في الواقع التطبيقي لها، كما أصبح الواقع العلمي الوارث لهذا الخلل مجالا لفوضى الفكر وعنف التعايش والتخاطب بين هذه التيارات والمناهج . ومن صور هذا الخلل المنهجي في الفقه والفكر ما يلي : الجهل وتحسين الظن بالعقل مع الغرور بالنفس، وهذه الأمور مجتمعه سبب كبير في الخروج عن الاعتدال المطلوب إلى الجنوح والأحداث في الدين . يقول الله عز وجل : (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ص 26 . يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : (إن الاحداث في الشريعة إنما يقع إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن، بالعقل وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة)"11" . والناظر في سمات أهل الأهواء يجد قاسماً مشتركاً من الجهل والهوى يجمع بين أطرافهم المتناقضة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (يخرج قوم من أمتي في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ..) رواه البخاري (3610) . ويحدث الخلل في منهج التلقي عندما تقدم آراء البشر على نصوص الشرع، وهذا الأمر وإن كان مردوداً من الناحية النظرية إلا أن الواقع يشهد بهذا الخلط من تنزيل أقوال الرجال مكان نصوص الشرع. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : اتخاذ أقوال رجل بعينه منزلة نصوص الشرع لا يلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله "12" . ومن الخلل كذلك ترك تلقي العلم من العلماء ومجالستهم والتتلمذ على الأصاغر أو الأخذ من كتب أهل الأهواء، فهذا الجهم بن صفوان كان على معبر ترمذ وكان رجلا كوفي الأصل فصيح اللسان لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم كغيره من أئمة الفرق وأهل الكلام فضل وأضل . إن هذه الصور من الخلل في منهج التلقي وغيرها أبرزت مناهج متنافرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والمطالع لصحافتنا العربية أو المتابع لبعض المنتديات على الشبكة العنكبوتية يرى صوراً من الغلو والتنطع في الأحكام والتصورات ويرى التساهل والتفريط في بعضها الآخر، حق كتاب الشهرة أو المتعلمنين الذين غاصوا في مستنقع التشفي بأهل الدين وقعوا فيما هربوا منه ووصموا به غيرهم , من ضيق الأفق والطعن الفكر ي, في نظرتهم للأحداث الماضية. ان الضرورة الأمنية في المجتمع قد تملي على صناعها زيادة الاحتياطات الأمنية عند التوتر وتفعيل الرقابة على مكامن الخطر والصرامة في الردع والزجر , وكل ذلك قد يجدي لو كانت المعركة في غير ميدان الفكر ولتصورات , اما هذا الميدان الشائك والحقل الملغوم بالقناعات والمؤثرات الفكرية فلا يجدي معه الا الفكر الصحيح والحجة الدامغة والفقه المعتدل الذي لا يجنح نحو الترهيب والغلو المعاكس حينها ينجلي الحق ويزهق الباطل , وفي ذلك يقول الله تعالى : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (الأنبياء 18) هوامش/ 1. الأحكام السلطانية 2. مقاصد الشريعة 3. المستطفى 4. العقيدة الواسطية شرح الفوزان 11-5. الاعتصام 1. الجهاد والقتال لهيكل 2. القوانين الشرعية 3. السيل الجرار 12-9. أعلام الموقعين 1. دراسات في الأهواء والفرق @@ د. مسفر بن علي القحطاني الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن