اعتلِ مركباً فينيقياً برأس حصان وذيل سمكة على وقع خرير المياه المتدفّقة من كل الجهات، وادخل المكان بأمان ولو من فم قرش! تحفّ بك صدفتان ضخمتان، حيث تلقى نفسك في عالم آخر على عمق 14 متراً تحت الأرض! إنه متحف الحياة البحرية والبرية في وادي مغارة جعيتا بمنطقة ذوق مصبح اللبنانية، التي تبعد من بيروت 12 كلم. منشأة سياحية – علمية ترفل بجمالياتها في ذلك الوادي السياحي بامتياز. فالقادم إلى المغارة يلفته فوراً مشهد المتحف البديع من بعيد، حيث يُستهل بسفينة فينيقية ضخمة تمخر بمجاذيفها «عباب» ماء متدفّق من جميع الجهات. قصة المتحف - الحلم تعود إلى 25 عاماً خلت، عندما كان الدكتور جمال يونس، يدرس طب الأسنان في رومانيا، حيث مارس التخدير والتحنيط وبرع فيهما. وبدافع محبته لعالم البحار مذ كرج يافعاً بقدميه على رمال شاطئ مدينته الساحلية صور في جنوبلبنان، حنّط يونس الأسماك والحيوانات البحرية في شكل متقن، وعرضها في عيادته الخاصة! فأمست متحفاً مصغراً بكل ما في الكلمة من معنى، لا بل أصبحت تلك العيادة الصغيرة المتواضعة قبلة الزوّار والرحلات العلمية والتربوية للمدارس والمعاهد اللبنانية. لم يقتصر حلم يونس على الخيال، فصمّم الشاب اللبناني على تحقيق حلمه بتأسيس متحف مميز في منطقة جعيتا. عمل لسنوات وسنوات، جال العالم، تعرّف إلى متاحف عالمية، مخر عباب البحار والمحيطات، قصد أعماقها وأماط اللثام عن كل ما هو نادر وجميل، ضمّ إلى مقتنياته مجموعات جديدة من الحيوانات البحرية وحتى البرية النادرة. وابتدأ المشوار المضني. شراء الأرض كلّف كثيراً، وحفر أنفاق ومغاور تحت الأرض بعمق 14 متراً جعل المهمة أصعب. لكن لا ضير، المهم ألا يبدو مشهد المتحف العتيد تقليدياً، بل عبارة عن مغاور تحت الأرض يمكن أن ترشح منها المياه. تصميم رائع بأنامل يونس، حيث المتدليات من صواعد ونوازل على مثال مغارة جعيتا المجاورة، لكنها مصنوعة من حبال وطين. أنفاق ترابية مهيبة على شاكلة معلم «مليتا» في منطقة إقليم التفاح (قضاء النبطية) في الجنوباللبناني. على مساحة 4500 متر مربع تحت الأرض، انتشرت الحيوانات لترقد بسلام في مشهدية بديعة لا ينساها الزائر. فالمكان في حدّ ذاته «تحفة» فنية قبل أن نتعرّف الى محتوياته. وقبل ذلك كله، لا بد من الإشارة إلى عنصر مهم أفضى إلى نجاح المتحف في فترة زمنية قياسية (افتتح للزوار في نيسان - أبريل 2015)، على رغم أن افتتاحه الرسمي لم يتم بعد، وهو يكمن في التضافر العائلي لإنجازه. فالدكتور يونس وعقيلته النشيطة جداً السيدة ليندا، يشرفان على أدق تفاصيل، ويعملان على تطوير المتحف بأفكارهما وسواعدهما... مخلوقات نادرة ومنقرضة يضمّ المتحف عدداً كبيراً من الحيوانات التي باتت شبه منقرضة، كفقمة الراهب التي جرى ضمّها في الآونة الأخيرة إلى المتحف عقب تحنيطها، بعدما عثر عليها نافقة في منطقة الروشة في بيروت، علاوة على الإسفنج وقنفذ البحر بنوعيه الأسود والملوّن والذئاب، وصولاً إلى الحيوانات البحرية التي تشكّل سبعين في المئة من المتحف. وهنا يقول يونس: «أهم المجموعات البحرية التي حازت شهادات من أكبر المنظمات البيئية العالمية ك «منظمة الحفاظ على أسماك القرش في العالم»، و «منظمة الحفاظ على البحر الأبيض المتوسط»، هي حوالى 40 نوعاً من أسماك القرش و30 نوعاً من النجوم و400 نوع من أصداف البحر الأبيض المتوسط. وهي مجموعة فريدة لا توجد إلا في هذا المتحف من بين جميع دول البحر الأبيض المتوسط». ويضيف: «كذلك، توجد عشرات الأنواع النادرة والفريدة التي لا تتوافر في أي متحف آخر، ومنها نموذجان من سمكتي السيف شفافة اللون بطول 120 سنتيمتراً». كما يقع الزائر على مشاهد ملوّنة لمرجان بحريّ يسحر العيون. ويعتز يونس أيضاً، بالمجموعات الصدفية التي جمعها، ومنها الصدف اللولبي الضخم والمنقّش النادر عالمياً. ويحوي المتحف مجموعات من الطيور الكاسرة والزواحف والفراشات والغزلان، ويتميز بوجود الجراد العملاق (18 سنتيمتراً) النادر ودجاجة ذات أربع أرجل وذيلين، وأيضاً البومة العملاقة والسلحفاة الأفريقية (تراينوكس) وهي بحرية - برية - نهرية لها رقبة الأفعى وأنف الخنزير ومخالب النمر، وصدفة الظهر. يدخل الزوار إلى المتحف من فم القرش العملاق الذي يجثم على سطح مبنى المتحف، الذي هو عبارة عن مغارة اصطناعية على عمق 14 متراً داخل الجبل. ويضم المتحف مغارات اصطناعية للحيوانات البرية التي تعيش في لبنان، مثل الضبع والثعلب والذئب والنيص وأبو غرير والقنفذ وغيره، بالإضافة إلى غابات تضم مجسمات لأشجار عملاقة وتحتوي على جميع الطيور البرية والبحرية العابرة والمستوطنة. ويتألف القسم البحري من مغارة الحورية، وتضم مجسماً لها بالحجم الطبيعي إلى جانب 250 نوعاً من الأحجار الثمينة وشبه الثمينة من أنحاء العالم، ومغارة النجوم والمرجانيات والإسفنجيات، ومغارة البحرية التي تحتوي على أسماك القرش وأسماك الأعماق وعلى القشريات، ومنها أكبر قرش (قرش الشماس) ويبلغ طوله تسعة أمتار. طموح لا يقف عند حدود لدى يونس، الذي يتطلع إلى جعل مشروعه السياحي - العلمي متكاملاً، بخاصة أن ال7000 متر مربع التي تحيط بالمتحف تقع في أجمل بقعة خضراء وسط غابة تطل على تلال ووديان رائعة الجمال على تخوم مغارة جعيتا كما أسلفنا. فإضافة إلى طلة المتحف التي يحلو فيها تناول الطعام والنرجيلة، يسعى يونس إلى إقامة مطعم وموتيل وتراس صيفي في الهواء الطلق وسط غابة الصنوبر، إلى جانب نبع ماء مترقرق للمناسبات. ويتطلع إلى جعل الغابة مكاناً لممارسة رياضة المشي في الطبيعة، لذا يعمل مع السيدة ليندا على زراعة الأرض بالنباتات والأزهار والأشجار النادرة. يبقى القول أن للمتحف ثلاثة أرقام قياسية عالمية، وهي لأكبر مجسم لسفينة فينيقية حربية بطول 40 متراً وارتفاع سبعة أمتار، وأكبر مجسم للقرش الأبيض بطول 35 متراً وارتفاع خمسة أمتار، وأكبر مغارة صناعية تحتوي على كل موجودات المتحف بمساحة تفوق 4500 متر مربع محفورة داخل الجبل.