يجد الروائي المغربي عبدالعزيز الراشدي أنه معني بالكتابة الملتبسة، أكثر من أي شيء آخر. لا يعنيه أن يكتب نصاً واضحاً يلبي حاجات قارئ كسول. المسافة بين الغموض والوضوح هي المنطقة الوحيدة التي ظل معنياً بها، أدبيّاً. يقول إنه انتبه إلى أنه لن يتخطى الالتباس، ذلك الالتباس الذي جاءت عليه روايته «بدو على الحافة» (الدار العربية للعلوم - ناشرون) ليس فقط انطلاقاً من دواع فكرية ووجودية نظرية حتّمت عليه أن يتعامل مع مواضيع كهذه، بل أيضاً، وأساساً، انطلاقاً من تجربة خاصة في علاقته بما يحيط به وبجسده وبكل الكائنات. يوضح في حوار مع «الحياة» ان الكاتب يرسم دائماً أفقاً لكتابته، لكن خيبة الأمل أحياناً تكون في انتظاره عند أول منعطف، وأحياناً تفاجئه نصوصه. إلى تفاصيل الحوار: روايتك «بدو على الحافة» تتأسس على ما يشبه الرواية داخل الرواية وهذه تقنية شديدة التعقيد، أي حاجة قادتك إلى تبني مثل هذه التقنية؟ - المسافة بين الغموض والوضوح هي المنطقة الوحيدة التي ظللتُ معنياً بها، أدبيّاً. لقد انتبهتُ منذ مدة إلى أنني لن أتخطى هذا الالتباس، ليس فقط انطلاقاً من دواع فكرية ووجودية نظرية حتّمت عليّ في مسار الحياة أن أتعامل مع مواضيع كهذه، بل أيضاً، وأساساً، انطلاقاً من تجربة خاصة في علاقتي بما يحيط بي وبجسدي وبكل الكائنات، وهي تجربة تجعلني أتأمل أشياء كثيرة كل يوم. الالتباس إذن، على مستوى المضامين الأدبية، والذي لا أدعي أنه اكتشاف خاص، لكنه انتماء إلى تجارب في الحياة والقراءة أتقاطع معها في أمور كثيرة. على مستوى الشكل أيضاً، تغريني تلك الأشكال التي لا تمنح نفسها بسهولة، (التي لا تنتهي؟). أضجر من القارئ الكسول الذي يطلب منك أن تُمسك يده وتقوده وهو مغمض العينين، لأن عملية القراءة هي إعادة كتابة، نوع من التفكيك المضمر للنص وإعادة كتابته، لذلك انشغلت، وأنا اقرأ ما تيَسّرَ، بنصوص مُتعِبة تستفزني لكي أعيد تفكيكها وكتابتها من جديد. وحين قررت كتابة هذه الرواية، اتجهت من دون وعي إلى تشكيل نص يسير وفق هذا الأفق... في الرواية ذكاء فني فالرواية التي تكتبها الطبيبة تفسر بعض الأحداث الغامضة، وتكشف سر الشخصيات، التي يستعصي على القارئ فهمها، وتدور في الرواية الثانية، التي يرويها ضمير عليم (هل هو عليم؟ لا يبدو كذلك) لكن غياب الكاتبة، أو اختفاءها جعل كل تلك التفسيرات مجرد تخمين، وليس حقيقة، إذ بدت ملتبسة، وهذا أمر جيد فنياً، لإبقاء القارئ في حال يقظة، لكن ماذا عن الخلط أو التكرار أحياناً؟ - لقد حاولت أن أتعامل كما قلت لك مع قارئ نبيه، يعرف كيف يعيد تركيب النص. ولا أعرف إذا كنت موفّقاً، لكن الأساسي هو ما نريد وليس ما نصلُ إليه، ما نرغب في كتابته يعيننا على الاستمرار. الكاتب يرسم دائماً أفقاً لكتابته، لكن خيبة الأمل أحياناً تكون في انتظاره عند أول منعطف، وأحياناً تفاجئه نصوصه. الكتابة عملية عجيبة تُشبه الحياة، لا تسير بنا دائماً وفق ما نخطط له. لذلك قد يكون علينا يوماً ما أن نكتب وكفى، النصوص التي نعتقدها ناجحة قد تموت بعد نشرها، والنصوص التي نعتقدها ضعيفة قد تجد لها قارئاً متلهّفاً، إن كيمياء الكتابة لأمر عجيب... على رغم قصر الرواية وكثافتها، فإنها مشحونة بالأحداث والشخصيات، التي تخفي أسراراً وتتشح بغموض كبير... شخصيات غامضة ومعقدة ووراءها الكثير من التفاصيل والأحداث، كل واحدة منها بحاجة إلى مساحة كبيرة، كيف قدرت على أن تغطيها كلها وتكثفها في مثل هذا العمل القصير؟ - بصراحة، لم أتمكن من قول كل ما أريد في هذه الرواية، لهذا أكتب جزءها الثاني نكاية في ذلك التكثيف. الكثير من الأصدقاء الذين قرأوا العمل أعجبهم، لكنهم تحدّثوا عن الاختصار الشديد والتكثيف الذي طغى على جسد النص. إنهم على حق، لقد كتبتُ القصة، فقط، لسنوات. وهذا العمل، هو أول تجربة روائية لي، لذلك كان محكوماً بهاجس التكثيف والخوف من الترهل الذي شغَلني قاصاً، ثمة نوع من الالتباس الحاصل بين الجملة القصصية والروائية، الآن أكتب نصاً حاولت أن أتخلّص فيه من هذا الحرص الزائد، لكن من دون التضحية بالسمة التي أريد لكتاباتي وهي احترام اللغة وتقديرها... في الرواية فنيات واستعمال لتقنيات سردية وكذلك تلاعب بالضمائر أضفى على الرواية خفة، وجعلها تنتمي للكتابة الروائية الجديدة، لكن هذه الرواية يتردد أنها تتموقف من القضايا الكبرى، في حين نجدك تتعاطى مع واحدة من هذه القضايا، كيف ترى هذه المسألة: قضية كبرى وأخرى صغرى؟ - الكتابة بالنسبة إلي قضية كبرى، لا يمكن أن نكتبَ نصاً رديئاً وندّعي الكتابة عن قضية لتغطية الضعف الفني. لكن في المقابل، يبدو الانتماء إلى الحقل الإنساني شرطاً أساسياً للوجود. القضية التي حاولتُ الكتابة عنها في هذه الرواية، ليست كبيرة ولا صغيرة، لقد حاولتُ الإنصات لفضاء أثير لدي، هو الجنوب المغربي، ولا زلت أبحث في كل ما يتصل به لأكتب عنه نصوصاً تستحقه. في المغرب، كتب الكثير من الروائيين عن الدارالبيضاء وطنجة وغيرها، لكن الكتّاب الجدد يتجهون الآن نحو الهوامش، إنها تجربة مختلفة وحركية ينبغي تامّلها، وأنا أنتمي للجنوب، ولم يسبق - بحسب علمي- أن تم الإنصات إلى هذا الفضاء وما يختلج فيه من صور وأحداث كما ينبغي. هذا الملاحظات، شجعتني على كتابة نص عن الصحراء، لكن مع رؤية فنية تحكم تصوري للكتابة، وهي على العموم رديفة لهذا الواقع وتنتمي إليه، كاتب ما قال يوماً إن الواقعية السحرية التي رأى في قريته الصغيرة، تتجاوز أي واقعية سحرية أخرى قرأها في النصوص. بدت لغة العمل ناضجة بما يكفي لأن تقوم بمهمة روائية على مستوى عال، وكانت أيضاً متنوعة ومتماسكة، لغة مشحونة بهواجس الذات واستبطاناتها، مثلما هي مهمومة باستغوار هم الجماعة، المتمثل في القرية وأناسها الخاملين، لغة نمت عن حساسية تجاه اللغة، حدثنا عما تعنيه اللغة لديك؟ - في طفولتي كنت اقرأ القرآن الكريم، أنت تعلم أن القرآن أبلغ كتاب، وكل الذين قرأوا النصوص القديمة في طفولتهم أصبحت لديهم علاقة خاصة مع اللغة، وتراهم يحاولون صياغة نص خاص ولغة خاصة. الآن أجد أن النصوص الأقرب إلى تجربتي هي النصوص التي تتمتّع بعلاقة خاصة مع اللغة، أضجر كثيراً من الأفعال والأسماء والنعوت المباشرة. لكن الحديث عن العلاقة مع اللغة ليس سهلاً كما قد نتصوّر، إنه «عالم بلا خرائط» من الصعب أن تتحدث عن علاقتك باللغة التي هي جزء من تكوينك وجسدك، لذلك أترك للقارئ هذا الأمر فهو أكثر حكمة مني. التجريبية التي تحفل بها روايتك يمكن النظر إليها بصفتها تجلياً لتجريب واسع عُرفت به الرواية في المغرب، وبهذا التجريب كانت الرواية المغربية تفتح أفقاً جديداً للرواية العربية بشكل عام، سؤالنا إلى أي حد أنت متشابك مع الرواية في المغرب ومتماه مع كتابها؟ - الرواية في المغرب خلقتْ منجزها الخاص بعيداً عن القراءات المُغرضة والتصنيفات التي جعلَتها لوقت طويل مجرد صدى، لقد اقتحمَتْ هذه الرواية، لسنوات ومن دون أسلحة قارات واسعة، وهي لا تزال تعدُ بالكثير من الحَفْر. لقد كتب محمد شكري ومحمد زفزاف بأجسادهما نصوصاً خلّدتهما، في مجتمع صعب لا يعتَرف بكائن اسمه الكاتب. التجربة المعاصرة في المغرب تتوغّل أيضاً بهمة وتجربة. أتذكر الآن وأنا أكتب هذه السطور تجارب ونصوصاً كثيرة، مثلا تجربة عبدالكريم الجويطي ورائعته «كتيبة الخراب» وتجربة حسن رياض وعبدالسلام الطويل وزهور كرام وسعيد بوكرامي ومصطفى لغتيري ووفاء مليح وأحمد لكبيري وخالد أقلعي وغيرهم كثير. الآن أصبح الاتجاه نحو كتابة الرواية في المغرب يتنامى ويكبر. كل هذا يؤشر على أن الرواية في المغرب ماضية إلى أفقها الجميل، لكن كما قلت يبدو أن المواضيع التقليدية والأمكنة التقليدية لم تعد وحدها تستأثر بالاهتمام. ويبدو أن مهمة كتابنا الجدد هي اقتحام عوالم جديدة وفضاءات جديدة ستحقق نقلة نوعية للرواية بالمغرب. هل تعتقد أن الجيل الجديد من الروائيين في المغرب، وأنت واحد منهم، استطاعوا أن ينحتوا خصوصية لهم، بعيداً عن التماهي مع منجز السابقين؟ ومن أبرز الكتّاب في جيلك؟ - طبعا سيتمكن هذا الجيل من التقدم وتخطّي كل العقبات بإصراره. لقد ذكرتُ في جوابي السابق العديد من الكتّاب الذين نشروا نصوصاً جيدة وأغنوا الساحة الروائية المغربية. وكما قلت خصوصية الكتابة الروائية المعاصرة في المغرب تتميز أساساً بهذا الاختراق الذي جعلها تقتحم أمكنة جديدة وتعد بنصوص لافتة. قبل الرواية قدمت منجزاً قصصيا لافتاً، وفزت بجوائز جيدة، حدثنا عن هواجسك في التجريب والسعي إلى كتابة مميزة ليس في المغرب فقط، إنما في الوطن العربي بشكل عام؟ - الكتابة ضمن الفضاء العربي الرحب أفق آخر، لم يعد ممكناً في هذا الزمن تلافيه. في السابق كان البعد القُطري يطغى على الكتابة في المغرب، لكنها الآن مع كل هذه الوسائط أصبحت تطلّع إلى الالتحام بالجسد العربي الكبير الذي تجمعها معه أواصر الدم والقرابة والنسب. صحيح أكتب أيضاً لقارئ عربي لكن من دون التضحية بالنص المحلي الذي هو الأساس. أميل إلى الاعتقاد بوجود لغة مغربية خاصة، اللغة العربية المغربية تختلف عن العربية في دول أخرى. لا أقول إنها تتباين تماماً، لكن هناك اختلافات على مستوى الروح والاستعارات والبناء. إنها قضية لسانية تتطلّب الكثير من الجهد والتأمل. لكن سأقول ببساطة نحن نتحدث عن لغة واحدة بروافد متعددة. وهذا ما تحسّه عندما تقرأ نصاً عربياً مصرياً أو لبنانيا، إنك تشتم روائح مختلفة. وهذا التنوع يغذي اللغة العربية ويمنحها قوة. أنت أحد الأدباء الشبان الذين ضمتهم قائمة بيروت 39؟ ماذا تعني لك هذه القائمة؟ وما رأيك في ما أثير من حولها؟ - أعتقد أن اللائحة ضمت أسماء جيدة جداً لها حضور حقيقي في ساحة الكتابة، والقائمة قصيرة على العموم، فتسعة وثلاثون رقماً لا يمكن أن يغطي كل الكتاب الجيدين في العالم العربي ممن هم دون الأربعين، وأنا أعرف كتّاباً جيدين لم تشملهم القائمة، لذلك لا ينبغي أن يُنظر إلى هذه القائمة كلائحة نهائية للكتاب الشباب، الكاتب الجيد لا تهمّه جائزة أو لائحة، كما أن تواجد كاتب ضمن اللائحة لا يبرر مهاجمته. تكتب الآن رواية جديدة جزء منها كتبته في ريف فرنسي حين كنت تقضي منحة ثقافية، حدثنا عن هذه الرواية؟ وإلى أي حد ستكون مميزة عن «بدو على الحافة»؟ وهل يمكن معرفة حول ماذا تدور؟ - أنا شخص فوضوي وهذا أمر سيئ، لن أدّعي أية حكمة. أكتب أحياناً أشياء كثيرة في الوقت نفسه، وهذا يُعطّل الكتابة ويجعلك تحس بالإحباط، لأنك لا تنتهي أبداً، لذلك توجّهتُ إلى منطقة بعيدة بفرنسا وقضيتُ بعض الوقت هناك لأركّز على مشروع واحد، وعموماً لقد شارف مشروعي على النهاية، ومادام النص غير جاهز تماماً، فيصعب علينا أن نتحدث عنه.