تغيرات عميقة تشهدها السياسة الخارجية التركية بعد تراجع نموذج «تصفير المشاكل»، إذ تشهد العلاقة مع واشنطن والغرب فتوراً لا تخطئه عين، وبدا ذلك في الخلاف على إقامة مناطق آمنة في العمق السوري، وتحفظ الغرب عن الضربات الجوية التركية لمعاقل الأكراد في سورية والعراق. في المقابل ثمة توتر مع القاهرة وأرمينيا والاتحاد الأوروبي ناهيك عن هدوء حذر مع طهران وقطاع واسع من الدول الخليجية، بينما تبدو العلاقة باتجاه بكين وعمق تركيا الآسيوي مرشحة لمزيد من التعاون، وكشفت عن ذلك زيارة أردوغان نهاية تموز (يوليو) الماضي للصين وإندونيسيا. وفي الوقت الذي تسعى أنقرة إلى فتح أسواق جديدة لها في آسيا، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمته أمام منتدى الأعمال التركي الصيني الذي عقد في بكين، أن العلاقات الثنائية التركية الصينية قطعت شوطاً كبيراً خلال السنوات الماضية معتمدة على الثقة المتبادلة. صحيح أن بكين أعلنت تفاؤلها بمستقبل مشرق للعلاقة بين البلدين، إلا أن ثمة معوقات تقف حجر عثرة منها التوتر المكتوم بين بكينوأنقرة على خلفية أزمة الأويغور، واتهام أنقرة الحكومة الصينية بإساءة معاملة أقلية الأويغور المسلمة الناطقة بالتركية في إقليم شينغيانغ الصيني. وأخذت الأزمة منحى أكثر صعوداً مع رفض الصين وعود تركية بمنح الأويغور الذين غادروا الصين في شكل غير قانوني، وثائق سفر تركية. وتتململ أنقرة في إنهاء مفاوضات شرائها صفقة محتملة قيمتها 3.4 بليون دولار، لمنظومة صاروخية لتدعيم دفاعها الجوي. وكانت أنقرة أعلنت في 26 أيلول (سبتمبر) 2013 اختيارها شركة «سبميك» الصينية لاستيراد نظام دفاع « F D – 200» الصاروخي، وهو الأمر الذي أثار غضب واشنطن التي تفرض عقوبات على هذه الشركة لخرقها قانون حظر انتشار الأسلحة بالنسبة إلى إيران وكوريا الشمالية وسورية. كما تضمنت الصفقة إنتاج أربع منظومات للدفاع الصاروخي، 288 صاروخاً في 12 وحدة إطلاق جنباً إلى جنب نقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك، علماً أن تركيا ستكون في حاجة إلى حوالى 15 إلى 20 منظومة من هذا النوع لتغطية الأراضي التركية كافة من المخاطر المحتملة، وهو أمر تأمل أنقرة أن تقوم بإنتاجه بنفسها بموارد محلية بعد تسلم الوحدات الأربع الأولى. ويرتبط المعوق الثالث بالخلل في ميزان العلاقات الاقتصادية البينية لمصلحة الصين الشريك التجاري الأول لتركيا في الشرق الأقصى والثالث بعد ألمانيا وروسيا. وتعاني أنقرة عجزاً تجارياً كبيراً إزاء الاقتصاد الصيني، حيث وصل حجم العجز من 1.24 بليون دولار عام 2000 إلى نحو 22 بليون دولار في العام 2015. أيضاً ثمة صعوبات يواجهها الأتراك عند التوجه للاستثمار في الصين بسبب قوتها وتقدمها التكنولوجي، فضلاً عن الاشتراطات الفنية والقانونية. لكن، رغم ما يحول دون تطور العلاقة مع بكين، فثمة عوامل تدفع أنقرة للتوجه وتوطيد العلاقة مع بكين، أولها الصعود الاقتصادي المذهل للصين ونموذجها غير الأناني في التنمية. فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، ومنذ بدء تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على الخارج عام 1978، حققت الصين قفزات تنموية خارقة حتى أصبحت ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الاقتصاد الأميركي وبفارق محدود. وفي الوقت الذي يعاني الاقتصاد الأميركي والأوروبي أزمات حادة ويشهد تراجعاً واضحاً، يعتبر الاقتصاد الصيني الأسرع نمواً على مدى الثلاثين سنة الماضية بمعدل نمو سنوي تجاوز 10 في المئة لسنوات، وبلغ 7 في المئة في الربع الثاني من العام 2015، ليؤكد استمرار الصين كعملاق تجاري وأكبر مصدر وثاني أكبر مستورد في العالم. وثانيها رغبة الأتراك في تنويع مصادر السلاح، والتحول تدريجياً نحو سياسة تعدد الجوانب في تسلحها كما فعلت في استراتيجيتها الاقتصادية والتجارية في العقد الأخير. وفي هذا السياق، تم اختيار الصين التي قطعت شوطاً كبيراً في مجال الصناعات العسكرية، لا سيما أن بكين نجحت طوال السنوات التي خلت في الربط بين تطورها الاقتصادي، وتحديث وتطوير قدراتها العسكرية. وكانت الصين شهدت طوال السنوات الخمس الماضية، طفرة هائلة في إنتاج الأسلحة التقليدية والنووية وبتكنولوجيا غير مسبوقة، وبأسعار تنافسية. ويشار إلى أن صفقة الدفاع الصاروخي محل الجدل كانت أقل بنحو بليون دولار عن نظيراتها الغربية والأميركية، فضلاً عن استعداد بكين لأن تدرج ضمن الصفقة جانباً من تكنولوجيات إنتاج المنظومات الدفاعية، وهو الأمر الذي حفز تركيا مجدداً على إعادة فتح أبواب النقاش حول الصفقة للتخلص من أنانية الشركات الغربية في نقل تكنولوجيا التصنيع. وثالثها رغبة أنقرة في تنويع حلفائها العسكريين، لا سيما بعد فتور العلاقة مع تل أبيب وأوروبا بعد تعثر مفاوضات اللحاق بالقطار الأوروبي، جنباً إلى جنب الاستياء التركي من خيبة الأمل لدى صانع القرار الأميركي، إذ اشتكى الأتراك من مماطلة الولاياتالمتحدة في دعم بلادهم بالتكنولوجيا العسكرية، بالرغم من أنها تحتفظ بعلاقات استراتيجية إضافة إلى كونها عضواً بارزاً في حلف شمال الأطلسي. وكان العام 2012 عام الخلاف السياسي بامتياز بين أنقرةوواشنطن، إذ رفضت الأخيرة طلباً تركياً بتمديد عمل طائرات الاستطلاع من دون طيار التي تديرها واشنطن (أربع منها موجودة في قاعدة انغرليك) لدعم الجهد التركي في مراقبة وتمشيط الشريط الحدودي لها مع العراق وسورية، وهو أمر لم يلق تجاوباً من إدارة أوباما بحجة أن ثمة توترات في مناطق أخرى تتطلب إشغالها هناك. ويتعلق العامل الرابع بمحاولات تغيير السياسة الصينية حيال الأزمة في سورية، فثمة تباين بين أنقرةوبكين، ففي الوقت الذي تسعى الأولى إلى توجيه ضربة عسكرية ضد نظام الأسد، اتسم الموقف الصيني في شأن الأزمة السورية برفض التدخل الخارجي بعامة، والتدخل العسكري على وجه التحديد، ومن ثم رفض أي إجراء في مجلس الأمن من شأنه أن يفتح الطريق أمام احتمال هذا التدخل، وهو ما يفسر استخدام الفيتو مرتين متتاليتين ضد مشروعي قرار في شأن سورية. وراء ذلك، فإن تقارب تركيا مع بكين مبعثه توبيخ الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةلأنقرة بعد تصاعد قضايا الفساد وتضييق الحريات واستخدام العصا الغليظة مع المحتجين وعدم الاستجابة لمطالبهم. ويرتبط العامل السادس بانتقال مركز الثقل الاقتصادي إلى الصين ودول آسيا عموماً، مقابل التراجع الملحوظ لأوروبا والأطلنطي اقتصادياً، فرغم أن الولاياتالمتحدة ما زالت الأولى من حيث إجمالي الناتج القومي، إلا أن الصين اقتربت كثيراً منها وتحتل المرتبة الثانية تليها الهند ثم اليابان. على صعيد ذي شأن، عمل أردوغان خلال زيارته إندونيسيا على توطيد العلاقات الاقتصادية، وفتح آفاق أوسع للاستثمار في إندونيسيا المرشحة لتكون صاحبة سابع أكبر اقتصاد في العالم بدلاً من بريطانيا بحلول العام 2030، وحافظت إندونيسيا على نمو الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من مستوى 5 في المئة سنوياً. إندونيسيا هي رابع أكبر بلد في العالم من حيث عدد السكان ويحتل اقتصادها المرتبة السادسة عشرة عالمياً حالياً. * كاتب مصري