يهرع الحالمون الذين تخذلهم أزمنتهم إلى كلمة: الأزمة، حيث إرادة الفعل لا تستجيب إلى ما يجب فعله، والنظر أصغر من الموضوع الذي يتأمله. والكلمة لا تتخفف من التفاؤل، فبعد الأزمة يأتي، منطقياً، الخروج منها، في انتظار فكر يقول بالأزمة العضوية، التي تقتصد في التفاؤل وتطالب ببداية جديدة، تأتي متثاقلة، «تأتي ولا تأتي»، كما يوحي كتاب لوشيو ماغري: خياط أولم، الذي يقع في أكثر من 400 صفحة من القطع الكبير (فيرسو، لندن ونيويورك). في الكتاب ما يلفت النظر مرتين: تجربة مثقف متمرد عمرها نصف قرن، وتجربة تحررية إيطالية حاورت القرن العشرين بمفردات الاشتراكية والمساومة التاريخية و «حزب المجتمع» الذي هو حزب العقول النقدية الفاعلة، التي شارك فيها ملايين البشر ذات مرة. تحيل التجربتان على ما يدعى: الميراث (عنوان الفصل الأول) الذي هو تعاليم زمن مجتهد، سقط عليه الإخفاق وألزمه بالفرار. بيد أن «ماغري»، الذي شارك المخفقين إخفاقهم، لم يرضَ عن سقوط لا هيبة له، فانتصر للذين فاتهم الانتصار، وكتب سيرته وهو يكتب سيرتهم من دون أن يغلق أبواب المستقبل أو أن يطمئن إليها، كما لو كان قد اكتفى بالتأمل والتحليل، وأقلع عن الرهان. بدأ «ماغري»، المثقف اليساري الذي لا ينقصه الجموح، فعله السياسي في منتصف خمسينات القرن الماضي، عضواً في الحزب الشيوعي الإيطالي، الذي زهد مبكراً بالتبسيطات النظرية البليدة، وبحث عن أفق فكري قوامه «المثقف الجمعي»، بلغة غرامشي، الذي هو جملة عقول منظمة تتبادل النقد والإضاءة والتكامل. غير أنّ المجموع الفكري السعيد، الذي دعاه مثقفه الألمع أنطونيو غرامشي، بالأمير الجديد، تقدّم وتراجع وراوح، ما حمل ماغري، بعد ثورة الطلبة عام 1968، على الخروج منه وتأسيس مجلته الشهيرة «البيان» (المانيفستو)، التي عاشت طويلاً مع «حواريين» في أكثر من مكان وأخذت بعد سقوط الحزب عام 1991 اسماً شبه جديد هو «مجلة مانفيستو». يرصد كتاب «خياط أولم» تاريخ حركة شعبية سياسية ارتفعت عالياً وسقطت في الفراغ ويعكس، بين سطوره، حيرة مثقف ثمانيني لا يلوذ بالفرار، أدمن على الفعل وساقه زمنه إلى مناخ سياسي - فكري يختلط فيه العجز بالحداد. ولهذا يستهل كتابه بجملة مأخوذة من جوزيف روث: «إلى أين عليّ أن أذهب الآن؟»، كما لو كانت النظرية لم تعد مسكناً آمناً، ولم يعد «المسكن الحزبي» الذي كان صالحاً للإقامة. بين المسكن الذي كان والعراء الجديد شيء من اليأس المقاتل ومقاتل لا يزال يبحث عن مكان المعركة. يضيء ماغري إخفاقه المقاتل، راجعاً إلى المسرحي الألماني بريشت الذي كان معجباً بحكاية الخياط الذي ذهب عام 1811 إلى قسيس وقال له: «انظر، أنا أستطيع أن أطير!»، ووقع على الأرض مهشماً حين طلب منه القسيس أن يبرهن على ما يقول، لم تسعفه ملابسه في شيء، علق بريشت على الحكاية ساخراً: وهكذا تعلّم الإنسان الطيران بعد قرون لاحقة. تأتي الخبرة من التجربة، ويصدر الفضول عن احتمالاتها: هل ما جاء وأخفق يمكن أن تكتب له حياة ثانية؟ هل يستمر «المنافيستو» في التوالد بأسماء جديدة، مؤمناً بأنّ العالم حركة، أم سيعتقد، بعد حين، بأن الزمن تجاوزه ويخلو إلى الرضا: ليس في الإمكان أفضل مما كان؟ مستثاراً بخيبة غير متوقعة يطرح ماغري، وهو يتأمل حكاية الخياط، سؤالين: ماذا لو أنّ الخياط لم يمت وأستطاع النهوض بأعضاء مكسرة، وهل يقنع جسمه المريض، الناظرين إليه، وهو يحاول الوقوف؟ تفرض البداية الجديدة، والحال هذه، ذاتها، فلا أحد يناطح خيباته برأس مهشمة. والسؤال الثاني، الذي يباطنه استسلام عالي الكرامة، يقول: ما الذي قدّمه الخياط، في لباسه الطائر، إلى علم الطيران؟ أو: هل في خمسين عاماً من التمرد ما يفيد تمرداً قادماً أكثر نجاحاً وأقل خيبة في آن؟ وإذا كان للطيران علمه الذي يبدأ بخياط حالم وينتهي «بميكانيكا السماوات»، فهل للثورة «علم له معادلات «ثورية»، أم أن ما جاء وانصرف اختصر في كتب جميلة الأسلوب شحيحة القرّاء؟ يتأمل ماغري سيرة الحركة الثورية التي انتمى إليها ويصل إلى جواب مريح: لم ننتصر، فما زال للاستغلال مملكة متوسعة الحدود، وهي لم تهزم، سار وراءها، ذات مرة، ملايين وتعلموا احلاماً توسع المكان والزمان. والأكيد أن الأزمة قائمة في الوعي المتمرد، الذي ينقسم أكثر من مرة، لا في الزمن الذي هزمه، ذلك أن لكل زمن أسئلة تنوس بين الوضوح والقتام، تصاحبها نقاط عمياء تتحدى المبصرين. فللقرن التاسع عشر مشروع ثورة ترشدها رأسمالية صناعية، وللقرن العشرين ثورة تراوغها رأسمالية عالية التجربة، وللرأسمالية بعد الصناعية، كما يرى ماغري اليوم، فرضيات تراوغ ذاتها وتربكها «رأسمالية معرفية» لا تكف عن التجدّد. يعود ماغري إلى تاريخ الرأسمالية، القادرة على تجاوز أزماتها، باحثاً عما يسوّغ ويرفع الروح: وراء الرأسمالية المنتصرة أربعة قرون من التجارب العملية، ووراء «الاشتراكية» ومحاولات التحرّر زمن ضيق لازمه أكثر من عطب. واكب كتاب ماغري القرن العشرين من بدايته إلى نهايته، متحدثاً عن النازية والستالينية والنظام الدولي الجديد وعن هنري كيسنجر و «الشر العبقري»، الذي هزم دعاة التحرر في أكثر من مكان. ينهي ماغري الفصل الأخير من كتابه بسؤال «شاب» يثير الفضول: ما هي هوية الإنسان المتمرد اليوم؟ الذي يباطنه سؤال آخر: ما الذي يجعل مفكراً جاوز الثمانين يتمسّك بهوية صاغتها أحلام واسعة في طور الشباب؟ والسؤال الأول ضعيف البنيان، فمفهوم الحزب، الذي هو «مثقف جمعي»، رسب في اختبارات الحياة المتعددة، والنظرية العلمية الواسعة الاستطاعة تداعت منذ أن تحولت إلى «فلسفة سلطة»، والمدينة الفاضلة الموعودة استحالت إلى حكاية من الحكايات. يبقى الماضي الصاخب الذي ضربه التداعي وذهب إلى شيخوخة لا شفاء منها. غير أن هوية الماضي، حتى لو كانت مهيبة تُرضي «الأموات» ولا يباركها الأحياء، إلا إذا تخففوا من عقولهم واستسلموا إلى أوهام صلبة. يظل التجريب المتجدد، الذي ينجزه أحياء يعيشون الحاضر ويستشيرون الماضي في بعض الإجابات. أراد ماغري، وهو يطرح سؤال الهوية، أن ينصف ذاته، رفع «راية حمراء» تحترم حقوق البشر مزقتها الأزمنة، وأن يكون عادلاً مع أحياء وأموات شاركوه أحلامه. هناك تحالف سعيد بين العدالة والإنصاف، يهجس به مثقف مرجعه في مقاصده وأفعاله، بعيداً من «غالبية» تسقط في «غواية السوق»، ولا تعود إلى «النظريات» إلا صدفة. إذا كان في الأحلام ما يستدعي الفردوس، فإن في «سياسات الأحلام» ما يفضي إلى الكوابيس.