«الاقتصاد السياسي علم فريد من نوعه ولافت للنظر، ولكن الخلافات من حوله والصعوبات معه تبدأ منذ الخطوة الأولى، أي منذ أن يطرح أحد هذا السؤال البديهي: ما هو بالضبط غرض هذا العلم؟ ويعزو العامل البسيط، الذي لا يمتلك اصلاً سوى فكرة مبهمة عن العلم الذي يلقنه الاقتصاد السياسي، عدمَ يقينه في هذا المجال إلى النقص الحاصل في ثقافته الخاصة، غير أنه -في معنى من المعاني- ليس وحيداً في موقفه هذا، إذ إنه في الواقع يتشاطر سوءَ حظه مع كثر من العلماء والمثقفين، ومن بينهم أولئك الذين يكتبون مجلدات ضخمة، ويُلقون في الجامعات عشرات المحاضرات حول الاقتصاد السياسي، إذ لا يملك معظم اختصاصيي الاقتصاد السياسي في الواقع، ومهما بدا الأمر غيرَ قابل للتصديق، سوى فكرة مشوشة عن الغرض الحقيقي للاقتصاد السياسي...». بهذه العبارات بدأت المناضلة والمنظّرة الألمانية روزا لوكسمبورغ، سلسلةَ دراسات كان من سوء حظها ألاّ تنشَر كاملةً إلا بعد اغتيالها بسنوات عدة من سلطات بلادها (في العام 1919)، إثر انقلاب فاشل لجماعة سبارتاكوس الشيوعية التي كانت تتزعمها مع كارل لبكنخت، حيث نعرف أن هذه الدراسات -التي لم تكمل المناضلة الألمانية كتابتها جميعاً وفق جدول كانت أعدته سلفاً- لم تنشر إلا في العام 1925. وهي حين نُشرت مجتزأة وحافلة بالأخطاء على يد واحد من أصدقاء المؤلفة، كشفت أن لوكسمبورغ كانت قسمت مشروعها الأساسي، المنطلق أصلاً من محاضرات كانت تلقيها في «المدرسة المركزية للحزب الاشتراكي الديموقراطي» في برلين منذ العام 1907، إلى عشرة فصول، لم يبق منها في نهاية الأمر سوى خمسة تحمل العناوين التالية: «ما هو الاقتصاد السياسي؟» و «عناصر لتأريخ اقتصادي: مجتمع المشاعية البدائي» و «الإنتاج السلعي» و «العمل المأجور» وأخيراً «اتجاهات التطور الرأسمالي». وعلى رغم غياب خمسة فصول أخرى عن المجموعة، يبدو الكتاب -الذي عاد وصدر مصححاً وخالياً من الأخطاء وتُرجم إلى لغات عدة- متكاملاً، تقدّم من خلاله روزا لوكسمبورغ مساهمة جديدة من نوعها -في ذلك الحين- في دراسة الماركسية، وفي شكل خاص في دراسة «نقد الاقتصاد السياسي»، حيث نراها لا تكتفي بتلخيص النظرية العلمية في هذا المجال، بل تنصرف إلى تطبيق المنهج العلمي على تحديد ماهية الاقتصاد السياسي وغرضه. واللافت في كتابة روزا لوكسمبورغ في هذا المجال، بدؤها بانتقاد شتى النظريات الاقتصادية، بما في ذلك كتابات لينين زعيم الثورة البلشفية والحزب الشيوعي الروسي، الذي سيصير سوفياتياً لاحقاً، ودائماً بأسلوب ساخر مرح يجعل قراءة هذا الكتاب متعة حقيقية. في أيامنا هذه، قد يبدو مصطلح «الاقتصاد السياسي» بعيداً من التداول، اذ في ظل انهيار المنظومة الاشتراكية والعولمة، والإعلام الذي يقدم المعطيات الاقتصادية والمالية وجبةً تلفزيونية معممة كل يوم، باتت الفوارق بين المال والاقتصاد، وبين الاقتصاد والسياسة، وبين القطاعات الخاصة وقطاعات الدولة غائبةً تماماً، بحيث قد يبدو لمن يقرأ نصوص روزا لوكسمبورغ هذه وكأنها باتت تنتمي إلى أزمان سحيقة عفا الدهر عليها. غير أن هذا لا يمنع هذه النصوص من أن تحتوي على الأقل منهجاً علمياً للتفكير... وفي شكل أكثر تحديداً، منهجاً نقدياً للنظريات الاقتصادية، ما يعطي النصوص قوّتها وراهنيتها في الوقت عينه. غير أن لوكسمبورغ لا تكتفي طبعاً بتقديم منهج، بل إنها -وعلى غرار ما فعل مفكرنا العربي ابن خلدون قبلها بمئات السنين في «مقدمته» المرموقة- بعد أن تنتقد النظريات القائمة في مجال بحث الاقتصاد السياسي، يمينية كانت أو يسارية، تصل إلى مكان تحدّد فيه على طريقتها، ما تفهمه هي -وتريد أن تُفهمه لقرائها حول الاقتصاد السياسي-. وهنا، بعد استعراض علمي وتاريخي مسهب بعض الشيء، تؤكد الكاتبة أن كل ذلك التقديم يجب أن يوضح لنا السبب في أن الاقتصاد السياسي علم جديد «لم ير النور إلا منذ قرن ونصف القرن»، مستطردة أنه بما أن الاقتصاد السياسي هو علم القوانين الخاصة لنمط الإنتاج الرأسمالي، «من البديهي أن يرتبط وجوده ووظيفته بنمط الإنتاج هذا، بحيث يفقدان كل أساس لهما ما إن يكف هو عن الوجود»، أي -بكلمات أخرى- أنّ «دور الاقتصاد السياسي، بصفته علماً، سينتهي حالما يخلي الاقتصاد الرأسمالي الفوضوي مكانه لنظام اقتصادي مخطّط ومنظّم ومدار في شكل واع من قبل المجتمع العامل». وتصل روزا لوكسمبورغ، انطلاقاً من هذه الفكرة، إلى أنه «يمكن القول إن انتصار الطبقة العاملة المعاصرة وتحقيق الاشتراكية يعنيان الاقتصاد السياسي بصفته علماً...». وتنطلق روزا لوكسمبورغ هنا قائلة إنه «إذا كانت مهمة الاقتصاد السياسي وغرضه تفسيرَ قوانين تكوّن وازدهار نمط الإنتاج الرأسمالي، فإن على الاقتصاد السياسي حتماً أن يسبر غور قوانين انهيار الرأسمالية، لأن هذه الأخيرة، مثلها مثل كل الأشكال الاقتصادية السابقة عليها، ليست خالدة على الإطلاق... إذ إن كل ما في الأمر أنها تشكل مرحلة تاريخية عابرة، أو درجة واحدة من سلم لا ينتهي، هو سلم التطور الاجتماعي». والحقيقة أن أحداث نهاية القرن العشرين تبدو وكأنها تنسف كل نظرية روزا لوكسمبورغ وكل أحلامها وتأكيداتها... غير أن تحليل الواقع بعمق وعلى ضوء العَوْلمة، قد يوصلنا إلى استنتاج يتعلق حقاً بانهيار الرأسمالية، ومعها البورجوازية، كبُعدين أساسيين من أبعاد نمط الإنتاج الرأسمالي... ولكن ليس لمصلحة الاشتراكية بالطبع، بل لمصلحة نمط إنتاج أممي مُعَوْلم يقف خارج النطاق الطبقي... وفي يقيننا أن الاشتغال على تحليل هذا النمط الجديد لم يبدأ حقاً بعد، وأنه ربما يشغل الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ما يعني أن الاقتصاد السياسي سيعود من جديد، ولكن بأردية أخرى، وعلى أنقاض النظريتين الرأسمالية والاشتراكية مجتمعتين، وهي عودة كانت إرهاصاتها بدأت عبر محاولات تنظير العولمة ومابعد الحداثة والحكومة المالية الأممية العابرة القوميات وما شابه، ما أدى إلى حدوث تبدلات أساسية في نظريات بعض الأحزاب الأوروبية «اليسارية» صاحبة المصلحة النظرية الحقيقية في إيجاد مثل هذه التحليلات («الطريق الثالثة»، التي نادى بها مثلاً أنطوني غيدنز من مدرسة لندن للاقتصاد، صاحب الكتاب الشهير «علم الاجتماع»، الذي نقله إلى العربية المفكر فايز صيّاغ بترجمة قلّ نظيرها، والمفكر الذي وقف خلف «تجديدات» توني بلير في السياسة الاقتصادية لحزب العمال البريطاني، وطروحات بعض المحافظين الأميركيين الجدد، وجلهم من التروتسكيين السابقين...). وفي انتظار البدء بإيجاد أبعاد نظرية ملائمة، قد يفيد أن ننقل عن مؤلفة «ما هو الاقتصاد السياسي؟» أن هذا الاقتصاد، الاشتراكي والبورجوازي في آن، «لا يلقى لدى الفئات المالكة أي آذان مستعدة لسماع صوته. ودكاترتنا البورجوازيون، بسبب عجزهم عن فهم نظريات أسلافهم الكبار (...) يعرضون تحت اسم الاقتصاد السياسي خليطاً عجيباً عبثياً، مؤلفاً من بقايا كل أنواع الأفكار العلمية، ملصوق بها بعض التشويشات المغرضة...». وفي هذا على الأقل، تبدو روزا لوكسمبورغ معاصرة جداً، وتكاد تصف ما يُفَكّر به اليوم اقتصادياً، وما آل إليه وضع ما كان يسمى «الاقتصاد السياسي»... ذاتَ يوم. ولدت روزا لوكسمبورغ العام 1871 في بولندا، لتموت اغتيالاً على يد الشرطة الألمانية العام 1919 في برلين. وهي منذ صباها ناضلت ولعبت دوراً أساسياً ونظرياً في قيام الاشتراكية الديموقراطية البولندية، ثم توجّهت بعد أعوام منفى قضتها في سويسرا بين 1889 و1898، إلى برلين، حيث راحت تكتب وتنخرط في النضال، كما شاركت العام 1905 في الثورة الروسية الأولى، وتحولت بعد ذلك إلى برلين، حيث راحت تدرس الاقتصاد والسياسة وتشارك في جميع التحركات الثورية والاحتجاجية وصولاً إلى الوقوف ضد الحرب العالمية الأولى. وعند نهاية هذه الحرب، ساهمت روزا في تأسيس جمعية سبارتاكوس، التي شنت مجموعة من النضالات والتظاهرات التي انتهت باعتقال وتصفية الكثير من المشاركين ومن بينهم روزا لوكسمبورغ نفسها ورفيقها كارل لبكنخت يوم 15 كانون الثاني (يناير) 1919. [email protected]